نقد مقال “دولة إسلامية أم دولة مسلمين؟ لابراهيم غرايبة
راجع السيد ابراهيم غرايبة موقف الحركات الإسلامية في العصر الحديث من مسألة الدولة الإسلامية في مقاله المنشور في صفحة “الرأي” تحت عنوان “دولة إسلامية أم دولة مسلمين؟” بتاريخ 8 تموز/يوليو 2003م، وقلّل في هذه المراجعة من شأنها، وتساءل في بداية المقال فقال: “ما هي الدولة الإسلامية؟ هل هي قائمة بالفعل في العالم أم ليست موجودة؟” وأشار إلى معيار وجود الدولة الإسلامية فحدّده بالسعي إلى تطبيق الشريعة في الحياة والحكم، واستنتج بأن الدولة الإسلامية قائمة بهذا المعنى لأن معظم الدول الإسلامية تعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادرها التشريعية وتنص على ذلك في دساتيرها من جهة، وتسعى إلى تطبيق كثير من أحكامها في شؤونها المختلفة من جهة ثانية. واعتبر أن منظمة المؤتمر الإسلامي تضم ستاً وخمسين دولة تعتبر نفسها دولاً إسلامية، وانتهى غرايبة إلى تقرير وجود الدولة الإسلامية فقال: “فالدول الإسلامية بالمفهوم الاصطلاحي قائمة بالفعل، والحديث عن العمل على إقامتها هو سعي إلى تحقيق ما هو محقق”.
طرحت حركات إسلامية وعلماء وشخصيات شعار إقامة الدولة الإسلامية في مطلع القرن العشرين رداً على إلغاء كمال أتاتورك الخلافة عام 1926م، وكانت تقصد من ذلك جعل الإسلام مرجعية للحكم بعد أن أصبحت الايديولوجيا القومية هي المرجعية، لأن المعيار في الحكم على دولة بأنها إسلامية أو غير إسلامية هو اعتمادها الإسلام أو غير الإسلام كمرجعية، وليس المعيار – كما ذكر السيد غرايبة – تطبيق بعض الأحكام وزيادة حجم الأحكام المطبقة بمرور الزمن، ومما يؤكد ذلك تعريف الموسوعة الفقهية للدولة الإسلامية بأنها تقوم على ثلاثة أركان وهي: الدار، والرعية، والمنعة (السيادة).
وتعرف الموسوعة “الدار” فتقول: “كل أمصار سكنها مسلمون وإن كان معهم فيها غيرهم، أو تطبق فيها أحكام الإسلام”. وتعرف “الرعية” فتقول: “هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة”. وتعرف السيادة فتقول: “السيادة هي ظهور حكم الإسلام ونفاذه”. فالدولة كما هو واضح من تعريف الموسوعة لا تتحدد بالمسلمين فقط ولا بتنفيذ بعض الأحكام الشرعية، بل لابد منذ البداية من ظهور حكم الإسلام في كل شيء ونفاذه، ومما يلفت النظر أن الموسوعة الفقهية عرفت الدار بأنها تتحدد بظهور أحكام غير العبادة مثل حكم تحريم الخمر والزنا فقال الشافعية: “دار الإسلام: هي كل أرض تظهر فيها أحكام الإسلام، ويراد بظهور أحكام الإسلام: كل حكم من أحكام غير نحو العبادات كتحريم الزنا والسرقة أو يسكنها المسلمون وإن كان معهم فيها أهل ذمة”. لذلك وبناء على ما سبق تبيانه فإن وصف كثير من دول العالم الإسلامي ذاتها بالإسلامية من داخل منظمة المؤتمر الإسلامي أو من خارجها لا يلغي عنها صفتها الايديولوجية المغايرة للإسلام بالمعنى الوصفي وليس بالمعنى القيمي.
وإنني أتفق مع السيد غرايبة في أن هناك شططاً في تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة،44)، ويبلغ هذا الشطط أوجه عندما يحكم بعض الدارسين بالكفر على المجتمعات، لكن هذا الحكم جاء من خطأ التحليل للواقع الإسلامي، ومن عدم التمييز بين الخلافة والأمة، فسقوط الخلافة عام 1926م مع كل نتائجه الكبيرة في حياة المسلمين لم يلغ الكيان الإسلامي بل بقيت الأمة الإسلامية قائمة تحتضن قيم الإسلام، وتقيم عباداته، وتتلو قرآنه، وتحيي آدابه إلخ…، وإن سقوط الأحكام الشرعية لا ينزع صفة الإسلام عن المسلمين، وقد انطبق عليهم حكم المسألة الماردينية التي قال بها ابن تيمية حيث كانت ماردين جزءاً من دار الإسلام، ثم احتلها أعداء الإسلام، وانتقلت إلى دار الكفر ولم تعد تظلّلها شرائع الإسلام، فأفتى ابن تيمية بأننا لا يمكن أن نمضي على المسلمين فيها أحكام الكفر، بل هم جزء من الأمة الإسلامية، نمضي على المسلمين منهم أحكام الإسلام, وعلى الكافرين منهم أحكام الكفر.
واعتبر السيد غرايبة أن النظام الإسلامي ليس أحكاماً جاهزة ولكنه قواعد عامة ومقاصد كلية وأهداف وغايات وفلسفة يسعى المسلمون إلى تطبيقها، ولكن هذا الكلام بعيد عن الصواب لأن الأحكام في النظام الإسلامي تنقسم إلى قسمين: الأول: أحكام جاهزة لابد من تطبيقها، وهي أحكام مرتبطة بالفطرة كالأحكام المرتبطة بفطرة التعبد، وفطرة الجنس، وفطرة حب المال إلخ…، ومن هنا جاءت جهوزيتها وثباتها، الثاني: أحكام متغيّرة، وهي الأحكام المرتبطة بالأمور المستجدة على حياة الناس في مجال الصناعة والتجارة والزراعة والبيع والشراء والطعام والشراب واللباس وصور الانتخاب والتشاور إلخ…، وجاء تغيّرها من أنها مرتبطة بأشكال الحياة المتغيّرة، وقد وضع الإسلام منهجاً لاستنباط هذه الأحكام يعتمد على عدة علوم منها: علم أصول الفقه، وعلوم القرآن، وعلم الحديث، وعلوم اللغة إلخ…، والمطلوب من المسلم تنفيذ هذين النوعين من الأحكام، وعندما ينفذهما فإنه سيتحقق العدل والأمن والرحمة التي جاءت الشريعة من أجل تحقيقها، وبعد هذا التنفيذ فيمكن الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في تحقيق أية صورة أخرى يمكن أن ترتقي بحياة المسلمين، وتقودهم إلى مزيد من العدل والسعادة والرخاء والخير والعدل والصلاح.
تحدث السيد غرايبة في نهاية مقاله عن الشيخ حسن البنا ونشأة الإخوان المسلمين، وحاول أن يوظف بعض أعمال البنا في دعواه أولوية العمل للأمة على الدولة، واعتبر البنا متساهلاً في شأن الدولة متشدداً في صرف جهوده باتجاه الأمة، ودلّل على ذلك بعزوف البنا عن المشاركة في الانتخابات، والابتعاد عن السياسة الحزبية، والانسحاب من اللعبة البرلمانية، لكن هذا التوظيف غير صحيح، لأن البنا اهتم بكلا الأمرين: الدولة والأمة، ومما يدل على ذلك أن نشأة الإخوان المسلمين عام 1928م جاءت كرد فعل على سقوط الخلافة عام 1926م، ومما يدل على ذلك الشعار الذي رفعه الإخوان في هتافاتهم وهو “القرآن دستورنا”, والأرجح أن الظواهر التي أشار إليها غرايبة في موقف البنا من الانتخابات والأحزاب والبرلمان آتية من تحليله للوضع المصري الذي وجد أنه قام على سلطتين: الأولى: سلطة الاحتلال البريطاني وهي سلطة حقيقية، والثانية: سلطة الحكومة المصرية وهي سلطة هامشية، ولن تكون هناك سلطة حقيقية، وسيادة فعلية لأية حكومة إلا بزوال الاحتلال، واعتبر أية جهود باتجاه إقامة الدولة الإسلامية في ظل الاحتلال عبث لا طائل تحته، واعتبر أي صراع في إطار الأحزاب والانتخابات والبرلمان هو تفتيت لقوى الأمة وإضعاف لها في مواجهة الاحتلال، ومما يؤكد ذلك إنشاؤه “الجهاز الخاص” من أجل مواجهة الاحتلال، والذي كلفه حياته في مرحلة لاحقة.
أما رشيد رضا فقد كان مهتماً بالدولة على عكس ما ذكر السيد غرايبة، ودل على ذلك تأليفه كتاب “الإمامة العظمى” بعد سقوط الخلافة عام 1926م وبروز آراء تقول بعدم أهمية الخلافة، وأنها افتئات على الدين، وأن الإسلام ليس فيه حكم، وقد رد رشيد رضا في ذلك الكتاب على كل تلك الآراء، وبيّن أهمية الدولة في حياة المسلمين وضرورة استئنافها، وقد جاء موقف البنا متأثراً بأستاذه رشيد رضا من حيث الاهتمام بالدولة وإعطائها حقها بالإضافة إلى الاهتمام بالأمة.
ليس من شك بأن إقامة الدولة هي المشكلة الأصعب بالنسبة لجميع الأمم، ومن الأكيد أن هذه الصعوبات تزداد بالنسبة لأمتنا في عصر العولمة، ولكن الأهم أن لا تفرط الأحزاب والجماعات والعلماء في المعايير والجهود التي تضبط وجودها وقيامها.