بعد مقتل الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان، ارتفع الغطاء السياسي الذي كان يظلّل حزب الله، وتأكّد أنّ هناك استحقاقين مطلوبين منه، وهما: تسليم أسلحته للدولة، وضرورة بسط الجيش اللبناني سيطرته على الجنوب وانتهاء سيطرة الحزب الأمنية على هذا الجنوب والتي استمرّت منذ الانسحاب الإسرائيلي في أيار (مايو) 2000، وقد بحث مجلس الحوار الوطني الذي انعقد برئاسة نبيه برّي وشمل رؤساء كل الأحزاب والكتل السياسية اللبنانية بما فيهم حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله هذين الاستحقاقين، واللذين اعتبرا من قِبَل بعض السياسيين بأنهما أبرز المطالب المتبقّية من قرار مجلس الأمن (1559) والذي طالب بالانسحاب السوري من لبنان، وبنـزع أسلحة كل الميليشيات اللبنانية والفلسطينية إلخ…
ولكنّ مجلس الحوار الوطني لم يتوصّل إلى تصوّر واضح لتحقيق هذين الاستحقاقين، ومن المؤكّد أنّ حزب الله كان يدرك بأنه لابدّ من تنفيذ هذين الاستحقاقين لأنّ البديل عن ذلك هو انتهاء وجود الدولة اللبنانية وتفكّكها، ولمّا كان ذلك ليس وارداً في أجندة الطائفة الشيعية الآن، وطالما أنه لابدّ من تنفيذ هذه الاستحقاقين، فإنّ الحرب التي وقعت في 12 تموز (يوليو) بعد خطف الجنديين الإسرائيليين كانت مطلوبة من حزب الله بمقدار ما هي مطلوبة من إسرائيل، فهي مطلوب من حزب الله من أجل تحقيق بعض المكاسب الداخلية والخارجية الموضوعة على أجندة الحزب، ولكي لا ينتهي جهد ست سنوات لحزب الله من التدريب وحشد السلاح وإنفاق الأموال والسيطرة على الجنوب اللبناني إلخ…
دون أيّة نتائج سياسية وإعلامية واجتماعية ودعائية للحزب، وهي -أي الحرب- مطلوبة من قِبَل إسرائيل من أجل دفع الأمور باتجاه إنهاء الوجود العسكري لحزب الله في شمال إسرائيل، وهو الفرع، بعد أن انتهى الأصل وهو الوجود العسكري السوري في لبنان. والآن: ما تقويمنا لهذه المعركة بشكل خاص؟ وما مدى استفادة القضية الفلسطينية من جهود حزب الله بشكل عام ؟
أحبّ أن أوضّح منذ البداية إننا نعتقد بأنّ قتال العدو الإسرائيلي واجب علينا، ويجب أن لا يتوقّف في لحظة من اللحظات طالما أنه يعتدي علينا، ويحتلّ أرضنا، ولا يعني تقويمنا لتجربة حزب الله القتالية أننا ضدّ قتال العدو الإسرائيلي، لا يعني ذلك في حال من الأحوال، لكنّ تقويمنا لهذا القتال المقصود منه أن نرصد مدى استفادة القضية الفلسطينية منه، لأنها الأصل الذي يوجّه حزب الله سياسته لها.
وفي الحقيقة لا يمكن أن نقوّم المعركة الأخيرة من خلال سياسات حزب الله وحده، بل لابدّ أن نفعل ذلك من خلال النظر في سياسات طرف آخر هو إيران، لأنّ حزب الله منتج إيراني، وصناعة إيرانية بكل معنى الكلمة، فهو قد أنشأته إيران تنفيذاً لسياسات الخميني في أن تكون لإيران يد طولى في القضية الفلسطينية نتيجة أهمية القضية ومحوريّتها بالنسبة للعالم الإسلامي، وهو يرتبط عقائديّاً وايديولوجيّاً بمبدأ ولاية الفقيه الذي نادى الخميني به بعد ثورة 1979، وهو مُمَوّل من قِبَل إيران، وتبلغ ميزانيّته مائة مليون دولار سنويّاً، وهو مسلّح من قِبَل إيران، وتزوّده إيران بكل خبراتها العسكرية إلخ…
لذلك فالنظر إلى معركة حزب الله الأخيرة مع العدو الصهيوني دون ربطها بسياسة إيران نحو القضية الفلسطينية نظرة حولاء، لذلك وحتى تكون النظرة سديدة ليس فيها حَوَل، نتساءل: كيف تعاملت إيران مع القضية الفلسطينية؟ وحتى يمكن إعطاء حكم دقيق على دور إيران في مجال القضية الفلسطينية لابدّ من دراسة الدور الإيراني في ساحات أخرى، وأبرزها الساحة العراقية.
من الجليّ أنّ الغزو الأمريكي للعراق في آذار (مارس) عام 2003م، كان بموافقة إيران والتنسيق معها، وقد أعلن عن ذلك عدد من الساسة الإيرانيين والأمريكيين، وما كان لأمريكا أن تنجح في غزوها للعراق لولا التنسيق الإيراني معها، ولكنّ الأهمّ من ذلك، ماذا كانت نتائج ذلك الغزو على القضية الفلسطينية؟ كانت نتائج الغزو الأمور التالية:
1- تقسيم العراق:
من الواضح أنّ العراق يتجه إلى التقسيم وستكون هناك فيدرالية شيعية في الجنوب حسب الدستور الذي أقرّه البرلمان العراقي، وهذه الفيدرالية كان وراءها الفصيل الشيعي الرئيسي المرتبط بإيران وهو فصيل عبد العزيز الحكيم، فهل يخدم تقسيم العراق القضية الفلسطينية أم يضرّها؟ لاشكّ أنه يضرّها ضرراً بالغاً لأنه يلغي الجبهة الشرقية من الصراع مع إسرائيل بعد أن ألغيت الجبهة الجنوبية بخروج مصر من هذا الصراع بعد اتفاقيات كمب ديفيد عام 1978م، وينهي آخر الأخطار التي كانت تهدّد إسرائيل.
2- حلّ الجيش العراقي:
بعد أن احتلت القوات الأمريكية العراق كان أمامها خياران بخصوص الجيش العراقي، أحدهما: إبقاء الجسم الرئيسي للجيش العراقي وتسريح بعض قياداته ذات الولاء الصدّامي، وثانيهما: تصفيته كليّاً وتسريح كل قطاعاته، ومن البيّن أنّ الخيار الثاني كان في صالح إسرائيل بالدرجة الأولى، وليس في صالح الفصائل المعارضة لصدّام حسين، وهو ما أقدم عليه الاحتلال الأمريكي والذي كان يفترض ألاّ يمرّره التيار الشيعي المرتبط بإيران إذا كان حريصاً على القضية الفلسطينية بشكل حقيقي، لأنه يتعدّى هدف إزالة نظام صدّام حسين وهو الهدف الذي يبرّر به التيار الشيعي المرتبط بإيران تعاونه مع الولايات المتحدة في غزو العراق، هذا إذا تجاوزنا مناقشة أحقّية هذا التعاون.
3- تدمير البُنية التحتية في العراق:
لقد قام الغزو الأمريكي بتدمير كل عناصر البُنية التحتية في العراق: الاقتصادية والعلمية والثقافية إلخ… ومن مظاهر ذلك اغتيالات القيادات العلمية وأساتذة الجامعات، ونهب المتاحف وتدميرها إلخ…، وهذا ما يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويتعدّى هدف إزالة نظام صدّام حسين.
لذلك فإنّ إيران والأطراف الشيعية المرتبطة معها في داخل العراق تتحمّل المسؤولية الكاملة عن الأفعال الثلاثة السابقة وهي تقسيم العراق، وحلّ الجيش، وتدمير البُنية التحتية، والتي تصب في خانة تدعيم الكيان الصهيوني. وكانت من نتائج الأفعال السابقة انتهاء خطر الجبهة الشرقية على إسرائيل، وتغيير العقيدة القتالية كما أعلنت الأركان الإسرائيلية ذلك، وأصبحت غير محتاجة إلى الأرض خارج إسرائيل من أجل المقاتلة عليها، وهو ما كان مصرّ عليه سابقاً.
فكيف يمكن أن نجمع ونوفّق بين صورتين متناقضتين لإيران؟ في الصورة الأولى: تدعم إيران إسرائيل وتهيّء السُّبُل لتمكنها واستقرارها كما حدث في العراق، وفي الثانية: تحارب إيران إسرائيل بواسطة حزب الله كما حدث في لبنان مع الحرص الكامل على أن تكون الطائفة الشيعية وحدها هي المقاتلة في الجنوب اللبناني.
يكون التوفيق بإدراك أنّ المقصود من قتال حزب الله للعدو الصهيوني في لبنان هو الدعاية والترويج لإيران والطائفة الشيعية على مستوى لبنان والعالم العربي والإسلامي من جهة، ومن أجل المساعدة على نشر المذهب الشيعي في أنحاء العالم الإسلامي من جهة ثانية، ومن أجل التغطية على جرائم إيران في العراق من جهة ثالثة.