قصور الحركة الإسلامية

حوار مع جريدة المستقلة

سؤال 1: تعيش المجتمعات العربية والإسلامية حالة من التحلل والتفكك اجتماعيا وقيمياً، دون أن تكون هناك قوى مقاومة لذلك بالحجم المطلوب.  

ما هي بنظرك أسباب هذه المظاهر؟

جواب 1:لقد ورثت المجتمعات العربية والإسلامية في القرون الأخيرة بعض الأمراض في عدة مجالات من حياتها النفسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية نتيجة نشوء الفرق التاريخية التي أدى تصارعها إلى إضعاف جسم الأمة الإسلامية، ونتيجة تداخل مذهب الذرة وغيره من الأمور الفلسفية مع مرجعية الأمة: القرآن والسنة، فأدى ذلك التداخل إلى الإفقار النفسي للمسلم وإلى ظهور إشكالية العقل والنقل، ونتيجة التصوف الذي أدى إلى الاستلاب النفسي للمسلم وإلى تغييب العقل عنده، ونتيجة غياب الاختيار في الحكم الذي أدى إلى الاستبداد؛ وقد سببت تلك الأمراض ضعفاً في بناء الفرد والجماعة، وقد جاءت هجمة التغريب في القرنين  الأخيرين بكل ما تحمله من عنف وشراسة ووعي لذاتها وللآخرين لتفاقم من حدة اضطراب مجتمعاتنا العربية والإسلامية ولتقود قسماً من أبناء أمتنا إلى ساحة التغريب والانسلاخ عن جسم الأمة، وقسماً آخر إلى ساحة الضياع نتيجة وقوفه في وسط الطريق بين دائرة التغريب وبين دائرة الأمة، وقسماً ثالثاً حافظ على هويته وعلى انتمائه إلى أمته وقام بواجبات الانتماء إلى هذه الأمة.

سؤال 2: لماذا تكون مجتمعاتنا دائمة سهلة الاختراق والتأثر بهذه الظواهر؟

جواب 2: كانت هناك قيادتان للأمة على مدار التاريخ:

قيادة أمراء وقيادة علماء،

الأولى: تقود الجيوش والثانية: تقود جماهير المسلمين، وقد تصدت قيادة العلماء على مدار التاريخ الإسلامي لكل مظاهر الانحراف والابتداع والاختراق، واجتهدت في تصحيح مسيرة الأمة، وكانت تنجح بمقدار ما تمتلك وعياً شرعياً سليماً، وفهماً للواقع، وتصميماً على مواجهة المرض، ونجاحاً في استقطاب جماهير الأمة.

والآن في عصرنا الحاضر نجحت الحضارة الغربية في اختراق الساحات التي غاب عنها العلماء نتيجة ظروف تاريخية معينة أو وُجد علماء ولكنهم لا يمتلكون أدوات المواجهة بشكل كامل، لكنها وجدت صعوبة في اختراق الساحات التي وُجد فيها علماء امتلكوا الوعي الشرعي من جهة وامتلكوا فهم الحضارة الغربية من جهة ثانية.

س3: شكّلت الحركة الإسلامية الاتجاه الأكثر قبولاً وملاءمة لحاجات المجتمعات العربية والإسلامية إلاّ أنها لم تنجح في الخروج بهذه المجتمعات من أزمتها، كما لم تنجح في تقديم طروحات واقعية وعملية تترجم الخيار الإسلامي. ما الذي حال دون ذلك؟ وهل يتعلق الأمر بتسرع وسوء فهم لطبيعة آليات اشتغال تلك المجتمعات ولسنن التغيير؟

جـ3: إن الظروف الموضوعية المحيطة بالحركة الإسلامية ظروف مساعدة للتغيير، لكن أزمتها الذاتية هي التي حالت دون نجاحها في التغيير، وأبرز العوامل التي حاكت الأزمة الذاتية:

  • قصور الحركة الإسلامية عن امتلاك دراسة شاملة وعميقة لأسباب انحدار الأمة، ومراحل ذلك الانحدار، والعوامل التي سببته وأيها أكثر فعلاً وتأثيراً، وهي إن امتلكت بعض الدراسات فهي دراسات تنظر إلى جانب من انحدار الأمة وإلى عامل من عوامل الانحدار: العامل الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي إلخ… ولكنها لا تملك دراسة تحيط بتاريخ كل الانحدار في كل الأرض الإسلامية من خلال كل العوامل.
  • قصور الحركة الإسلامية في مجال بناء الفرد النفسي والعقلي:

فقد المسلم المعاصر كثيراً من فعاليته النفسية والعقلية بالمقارنة مع مسلم القرون الأولى والوسطى، وما ذلك إلا بسبب عناصر خارجية تداخلت مع المنهجية الإسلامية لا مجال للحديث الآن عنها أو التفصيل فيها ، وإن القصور في الفعالية النفسية والعقلية والأمراض التي رافقتها كان يفترض أن تكون محط دراسة وبحث من قبل الحركة الإسلامية المعاصرة من أجل تحديد مظاهر النقص في الفعالية النفسية والعقلية ، والعوامل التي أدت إلى ذلك ، وكيفية المعالجة من اجل إعادة المسلم إلى حيويته السابقة، لكننا نجد نقصاً رهيباً في هذا المجال، وعلى العكس تناولت الحركة الإسلامية المسلم المعاصر بأمراضه التي ورثها ووظّفته في صفوفها، ودفعته إلى المواجهة مع الحركات المعادية دون أن تبرئه من أمراضه، مما جعله لا يعطي النتائج المرجوّة: حيث لم يحتمل الضغوط الموجّهة إليه نتيجة الخلخلة في بنائه النفسي، ولم يحسن إدارة المعركة مع خصمه، كما لم يحسن ترتيب أولوياتها، وتحديد مساحاتها نتيجة الخلخلة في بنائه والقصور في منهجية التفكير السليم عنده.

  • قصور الحركة الإسلامية في حل إشكالية الجانب الجماعي في حياة المسلم المعاصر:

تعاني جماعات الحركة الإسلامية من موسمية ارتباط المسلمين معها، ومن ارتباطهم بها نتيجة أمور خارجية أكثر منها عقلية، ومن عدم فاعلية الأعمال الجماعية، إن هذه الظواهر مرتبطة بأكثر من سبب أبرزها اضطراب الموقف الفقهي من الجماعة، لذلك فإن الحركة الإسلامية ستبقى تعاني قصوراً في جانبها الجماعي ما لم تُوجد مناخاً فقهياً مغايراً يساعد على حل الإشكاليات السابقة.

س4: لوحظ تردد كبير في طروحات الإسلاميين في أكثر من مجال وأكثر من ساحة. هل يعود ذلك لافتقاد التأصيل أم لهشاشة الرؤية وضعف التجربة؟

جـ4 : تتخبط الحركات الإسلامية في خطوات عملها التغييري ، فهي حيناً تعمل بالأساليب العلنية، وإذا بها فجأة تنقلب إلى السرية، وحيناً تكون تعمل بأساليب سلميّة فإذا بها تنقلب إلى الأخذ بأساليب القوة والعنف من أجل تحقيق التغيير، وحيناً تجتهد في بناء المؤسسات، وحيناً آخر تهمل المؤسسات وتلتفت إلى بناء الإنسان على أساس أنه عماد التغيير، وأحياناً تمدّ يدها إلى الحكّام، وأحياناً تقبض يدها وتعاديهم، إن هذا التقلب والانقلاب عائد إلى أن هذه الحركات لم تحدد نظريتها في التغيير، ولم تبلور رأياً في كيف يكون التغيير؟ وما هي مراحله؟ وبمن يبدأ؟ ثم فيمن يثني؟ وما الذي نقوله للناس الآن وما الذي نؤجل قوله؟ ومن الذين نركز الهجوم عليهم؟ ومتى يكون التبشير؟ ومتى يكون الإنذار؟ وكيف يجب أن يكون موقفنا من الحكام؟ إلخ…

            ليس من شك بأن الإسلام يملك أحكم وأصوب نظرية في التغيير فهذا دأب الرسل والأنبياء، وهو هدف الصالحين، وقد بيّن القرآن الكريم هذه النظرية أوضح تبيين وفصلتها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن تفصيل. إن بلورة هذه النظرية ووضعها بشكل واضح أمام الدعاة العاملين في مسار التغيير يبعد الحركة الإسلامية عن الاضطراب والتخبط ويجعلها تحقق أهدافها في أقل التضحيات الممكنة وأسرع الأوقات المطلوبة، وهذا ما قصّرت فيه إلى الآن مما جعلها تخسر كثيراً من الجهود والأوقات.

س5: تحولّت تجربة الجماعات الإسلامية في كثير من الأحيان إلى نوع من الطائفية الجديدة وانحسرت على نفسها دون أن تقوم بتعبئة جميع طاقات المجتمع في التغيير المنشود. لماذا كان هذا التحول؟ وما السبيل إلى فكّه وردّ الأمور إلى طبيعته بحيث تصبح الحركة الإسلامية مشروعاً يستوعب جميع الاجتهادات وجميع الفعاليات؟

جـ5: جاءت الحزبية والتعصب اللذان أفقد جماعات الحركة الإسلامية جانباً من حيويتها نتيجة سببين هما:

  • القصور في البناء الإيماني للمسلم:

             يجب أن يُبنى المسلم في الجماعة على تقديم الحق على الأشخاص، ويجب أن يعرف الحق أولاً ثم يعرف الأشخاص؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي اكتوى بنار ظاهرة الحزبية والتعصب فقال:

“لا تعرفوا الحق بالرجال، اعرفوا الحق ثم اعرفوا أهله”، لكن الذي يحدث أحياناً نتيجة القصور الإيماني أن يقدّم المسلم الأشخاص على الحق مما يؤدي به إلى التحزب والعصبية والطائفية التي تسبب أضراراً كبيرة وحواجز مصطنعة في جسم العمل الإسلامي الواحد.

  • اللبس في الحكم الفقهي:

            ربّما جاء جانب كبير من الحزبية إلى بعض أفراد جماعات الحركة الإسلامية نتيجة استشعارهم بأن جماعتهم جماعة المسلمين التي تعني جماعة الأمة، وإنزالهم بالتالي كل أحكام جماعة المسلمين على جماعتهم، ولا شك أن مثل هذا الإحلال سيؤدي إلى الانغلاق الكامل على جماعتهم، والتعصّب لفتاويها، وأحكامها الشرعية، والتحزّب لقادتها.

س6: يُقدّم البعض اجتهاداتهم الإسلامية والسياسية على أنها حقائق مطلقة وتجارب نموذجية في الوقت الذي يثبت الواقع يوماً عن يوم عقم ذلك التفكير ونسبيته. ما الذي يحول دون الاعتقاد بالنسبية وبالمراجعة والنقد الذاتي؟

جـ6: إن تقديم بعض الاجتهادات على أنها حقائق مطلقة ناتج من عدم التمييز بين الثابت والمتحول في الإسلام، فهناك أمور ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، وهناك أمور متحولة مرتبطة بالزمان والمكان، لذلك وُجدت المذاهب الفقهية التي تعطي أحكاماً مرتبطة بالزمان والمكان، ولذلك اختلفت فتاوي الشافعي في بغداد عنها في مصر، لذلك نجد اصطلاح المذهب القديم للشافعي والمذهب الجديد للشافعي لأنه سكن بغداد أولاً ثم سكن مصر.

            أما قضية مراجعة التجارب (النقد الذاتي) فهو تعليم قرآني وسنة نبوية ويوضّح ذلك التعقيب الطويل الذي ورد على “وقعة بدر”، في سورة الأنفال والتي جاء مطلعها توجيهاً للمؤمنين إلى إصلاح ذات بينهم، فقال تعالى :

{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}.

ويوضح ذلك – أيضاً – التعقيب التفصيلي الذي ورد بعد غزوة أُحد التي خالف فيها الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في البقاء في أماكنهم ليحموا ظهور المسلمين ، فكانت النتيجة أن انفتحت ثغرة نفذ منها المشركون وقلبوا سير المعركة فبعد أن كانت انتصاراً أصبحت هزيمة، وفرّ المسلمون من أرض المعركة والرسول صلى الله عليه وسلم يناديهم : إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله، نقلت الآيات كل ذلك فقال تعالى :

{ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين. إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} (آل عمران، 152-153).

ثم بيّنت آية أخرى أن هزيمة المسلمين، وفرار بعضهم كان بسبب ذنوب ارتكبوها فقال تعالى:

{إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} (آل عمران، 155).

س7: أدى بروز الحركة الإسلامية وتميّز البعض منها إلى نوع من الانقسام الحاد في مجتمعاتنا مما أشعل حروباً أهلية في أماكن معيّنة (الجزائر) ويهدد بحروب في أماكن أخرى. ما السبيل إلى درء هذا الانقسام وإعادة الوحدة لهذه المجتمعات في ظل احترام الاختلاف والتعدد (الذي هو سنّة إلهية)؟

س8: هل لا يتعلق الأمر باجتهادات إسلامية وقبل ذلك بفهم حقيقي لنصوص الدين التي تحث على احترام الآخرين وعلى الدعوة بالكلمة الطيبة والأسوة الحسنة؟ 

            وهل لا يتطلب الأمر تنازلات من الجميع لحفظ وحدة الأمة ومصالحها وأولوياتها؟ 

جـ7، جـ8: إن كل شيء فطري فإن الإسلام معه ولا يمكن أن يقف في وجهه، واختلاف البشر وتعدد وجهات نظرهم شيء فطري، ولا شك أن الإسلام مبني على مراعاة هذه الحقيقة الفطرية، لذلك كانت مدارس الفقه المختلفة والتي أشرت إليها سابقاً تعبيراً عن هذه الحقيقة. أما الدعوة إلى الله فمجالها واسع، وأسسها واضحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن أصولها الدعوة بالكلمة الطيبة والأسوة الحسنة. 

            أما فيما يتعلق بانقسام مجتمعاتنا واشتعال الحرب فيها ، فإن العلمانيين يتحملون جانباً كبيراً من مسؤولية هذا الانقسام نتيجة طروحاتهم الفجّة ، والمصادِمة للدين ، والمتجرأه على ثوابت الأمة ، ويتحمل الغرب جانباً آخر من المسؤولية عندما يدفع القيادات المرتبطة به إلى عدم احترام خيارات الشعب ، وقد كانت الحركة الإسلامية على مدار القرن الماضي في موقف رد الفعل إزاء فعل الغرب والعلمانيين المرتبطين به ، لكن يجب أن نبقى أكثر حرصاً من غيرنا على دماء أبناء أمتنا وأموالهم وأعراضهم ، وأكثر تورعاً عن كل ما يمس حرماتهم . 

س9: الديمقراطية والمشاركة عنصران أساسيان في بناء المجتمعات الحديثة لكنهما تكادان تكونان مفتقدتين في عالمنا العربي والإسلامي وحركاته الإسلامية هل هذا اللبس الذي غالباً ما يُحاط بالحركة الإسلامية أمر حقيقي وواقع؟ وبماذا تفسر التصدعات التي تتعرض لها بعضها؟

جـ9: أفضّل استخدام مصطلحي “الشورى والمشاركة” وأرى أن المشاركة مفقودة في كثير من أجزاء عالمنا العربي والإسلامي بسبب غياب الاختيار كأصل في وجود الحكم والحاكم، هذه القاعدة الشرعية التي نصّ عليها جميع الفقهاء الذين أصّلوا السياسة الشرعية.

            أما على مستوى الجماعات الإسلامية فغياب الشورى والمشاركة ناتجان من غلبة صورة الجماعة الصوفية على واقع الجماعات الإسلامية والمتمثلة في نموذج علاقة الشيخ بالمريد ، فالشيخ فاعل والمريد منفعل ، الشيخ مرسل والمريد مستقبل ، والصورة المثلى لعلاقة المريد بالشيخ هي أن يكون كالميّت بين يدي مغسّله ، وهكذا نجد أن بعض الجماعات الإسلامية ما زالت تجسّد هذا النموذج مع أن المفروض فيها أن تجسّد نموذج الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضي الله عنهم، أو العالم مع تلاميذه، كما مثّلتها الحلقات العلمية عند أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن تيمية والعز بن عبدالسلام إلخ… حيث تجد الشورى واجبة على القائد، والمشاركة بالمقابل واجبة على المقودين.

س10: بعد تجربة طويلة في الساحة الثقافية والفكرية العربية والإسلامية هل يعتقد الاستاذ غازي التوبة بأن الأبعاد الثقافية والفكرية قد أخذت حظها في مشروعات الإسلاميين المختلفة؟ وهل كان هناك نجاح في بلورة طروحات اجتهادية متكاملة؟

جـ10: ما زال كثير من مشاريع الإسلاميين – بكل أسف – لا تقوم على الدراسة المستفيضة، والمعلومات الواسعة، والرؤية المعمقة، والأفكار المتسلسلة، إنما تقوم على النية الصافية، وعلى التوكل الذي هو ليس توكلاً بل تواكلاً لأنه لا يأخذ بالأسباب التي تتضح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل على الله”. وإن العمل الصحيح يحتاج إلى النية الصافية وإلى الأخذ بالأسباب، وقد جاءت كل تلك الموروثات التي تعتمد الفوضى والارتجال متنكرة للتدبير والتخطيط من مرحلة التصوف التي غيّبت العقل لمصلحة الكشف، ولكن – والحمد لله – بدأت تتقلص تلك الممارسات في ساحة العمل الإسلامي، وبدأ التفكير العلمي المعمق يسبق مرحلة أي مشروع من المشاريع الإسلامية.

س11: أين تقف الثقافة الإسلامية من الإبداعات المعاصرة؟

جـ11: تفصل الثقافة الإسلامية عن الإبداعات المعاصرة مسافة كبيرة. وربما يعود ذلك إلى عدّة ضربات تلقتها ثقافتنا الإسلامية في القرنين الماضيين وأبرزها ازدواجية التعليم التي قامت على إنشاء تعليم رسمي يحتذي حذو التعليم الفرنسي بالذات إلى جانب التعليم الشرعي ، وقد بدأ محمد علي باشا هذه الخطوة في مصر على يد أتباع سان سيمون، وقد تبعت الخلافة العثمانية محمد علي باشا بخطوة مماثلة حين أنشأت مدارس ذات منحى فرنسي في كل أرجاء الخلافة عام 1846م ، ثم أنشأت وزارة المعارف عام 1847م لترعى هذا النوع من التعليم، ومما فاقم الموضوع أن الدوائر الرسمية في كل من مصر والخلافة صارت تأخذ موظفيها من خريجي التعليم المدني وليس الشرعي ، مما جعل الناس يُعرضون عن التعليم الشرعي . ومن أبرز الضربات التي وُجهت إلى ثقافتنا الإسلامية بالإضافة إلى نشوء ازدواجية التعليم في الخلافة العثمانية، مصادرة الأوقاف الدينية في كل من مصر وإستانبول مع أنها كانت تشكل قريباً من ربع الثروة المتداولة آنذاك، هاتان الخطوتان وغيرهما أفرزتا النتائج التالية:

  1. تقلص حجم التعليم الشرعي نتيجة وجود منافس له وهو التعليم الرسمي.
  2. ضعف إقبال الناس على التعليم الشرعي نتيجة عدم أخذ متخرجيه في وظائف الدولة.
  3. مصادرة الأوقاف في كل من مصر والخلافة أفقر التعليم الشرعي وجعله يتراجع كيفاً وكماً.

            كل تلك المقدمات جعلت التعليم الشرعي يتراجع في حجمه وفي نوعيته، هذا في الوقت الذي قفزت الثقافة الغربية قفزات هائلة طوّرت فيها بعض العلوم، وابتكرت علوماً أخرى مما جعل المسافة تتضاعف بين ثقافتنا الإسلامية والإبداعات الغربية. إن هذا الضعف الذي أصاب المؤسسات العلمية الإسلامية والفجوة التي توسعت بين علومنا والعلوم الغربية من القرن التاسع عشر ، والذي شرحنا ظروفه التاريخية، جعل الجهود الفردية هي محور تنمية الثقافة الإسلامية وعماد ردم الهوّة بين علومنا والعلوم الغربية ، لكن الحقيقة أننا لن نستطيع أن نسد الثغرة إلاّ بعمل مؤسسي يرتكز على مراكز دراسات وجامعات، وقد تأسس في السنوات القليلة الماضية بعض مراكز الدراسات ، ووُجد بعض العمل الجامعي ، ونأمل أن يتحقق الخير في هاتين الخطوتين من أجل تنمية الثقافة الإسلامية، وردم الهوّة بيننا وبين الإبداعات الغربية.  

س12: أي تقييم لك لموقع الشباب في الحركة الإسلامية المعاصرة؟ ولعلاقات الأجيال داخلها؟

جـ12: الشباب لهم دور مهم في الحركة الإسلامية، فهم عمادها ووقودها، ويجب أن تكون علاقات الشباب بالشيوخ علاقة تكامل، وقد أولت الحركة الإسلامية الشباب جانباً من وقتها وجهودها، وأرى أن زيادة الرعاية للشباب عمل مهم، وهو استثمار مربح في كل الأحوال.

س13: ما هي أهم مراحل تجربتك الحركية والثقافية؟

جـ13 : إن أخطر ما يهدد العمل الإسلامي هو الإقليمية والقطرية التي يتقوقع فيها، فعليه أن يتدارك ذلك من جهة وعليه أن يتعامل مع الأمور بمنظار الأمة من جهة ثانية، أما في المجال الثقافي فإن نقد الأعمال وتقويمها هو أهم ما تحتاجه الساحة الثقافية، وقد أدى غياب النقد والتقويم إلى أن تأخذ بعض الأسماء رواجاً في الحركة الإسلامية دون أن تستحق ذلك، وأدى إلى أن تغرق الساحة الإسلامية بكتب لا قيمة علمية لها، فلو أن سوط النقد والتقويم مسلّط بشكل صحيح لفكّر كثير من الكتّاب عدة مرات قبل أن يقدموا على طباعة كتاب.

س14: في الأخير هل لكم من كلمة أخيرة؟

جـ14: الكلمة الأخيرة التي يمكن أن أشير إليها هي أن عملاً كثيراً ينتظر علماءنا ومفكرينا سواء أكان ذلك في غربلة التراث ودراسته الدراسة المفصلة وتقويم منعطفاته أم في عملية دراسة الحضارة الغربية الدراسة المعمقة من أجل إنهاض أمتنا والقيام بدور فعّال في إنقاذ البشرية من الأزمة التي تعيشها في ظل المنهج الوضعي الذي وصل إلى مداه في ظل الحضارة الغربية.

اترك رد