تستهدف إسرائيل تفتيت العالم العربي منذ نشوئها، وهذا الاستهداف خط استراتيجي رئيسي في كل سياساتها الخارجية، وهناك عدة وثائق تؤكد ذلك، وقد استطاعت إسرائيل أن تسوق هذه الاستراتيجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تبناها المحافظون الجدد في إدارة بوش، وقد وضحت كل هذه الأمور في مقال نشرته في صحيفة “الحياة” بتاريخ 22\06\2008 تحت عنوان “تفتيت العالم بين اسرائيل وأمريكا “.
سقطت كل الدعاوي التي تبنّتها إدارة بوش من أنّ الغرض من إسقاط نظام صدّام حسين كونه يمتلك أسلحة دمار شامل، وكونه يتعاون مع القاعدة، فثبت بعد ذلك بالدليل كذب الدعويين السابقتين، وثبت بأنّ العراق لا يمتلك أيّة أسلحة دمار شامل بعد أن فتّشته لجان الأمم المتحدة من أقصاه إلى أقصاه فلم تجد شيئاً، وثبت أنه لم يتعاون مع القاعدة، وأنّ الدعاوي بشأن اجتماعات عقدت في أوروبا بين ملحقين عسكريين عراقيين ورجالات من القاعدة في أوروبا لا أصل لها.
ثم سقطت كل الدعاوي التي روّجت لها إدارة بوش من أنّ الغرض من احتلال العراق هو جعله واحة للديمقراطية في المنطقة، وأنه سيكون نموذجاً يُحتذى، وبأنه سيصبح قاعدة جذب للإصلاح في المنطقة، وبأنه سيكون كألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، سقطت كل تلك الدعاوي، وأصبح العراق نموذجاً للدمار والفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار والقتل والتدمير، وكل ذلك في ازدياد.
وتأكّد -الآن- أنّ أحد الأهداف الرئيسية من احتلال العراق هو تقسيمه، وقد بدأ التمهيد لهذا التقسيم منذ اللحظة الأولى للغزو عندما اعتمدت المحاصصة الطائفية والعرقية في مجلس الحكم الأول، واختير الحكام حسب الطوائف والأعراق السنية والشيعية والكردية والتركمانية والمسيحية والآشورية إلخ…، وكان واضحاً أنّ القرارات الرئيسية التي أعدّها الحاكم الأمريكي للعراق (بول بريمر) من مثل حلّ الجيش العراقي كانت تساعد على تحقيق التقسيم والتي جاءت بضغط صهيوني، ثم جاء الدستور الذي كتبه اليهودي العراقي (نوح فيلدمان) لينصّ على إقامة فدراليات في الجنوب والوسط والشمال من تجميع عدّة محافظات، وسيكون لكل فدرالية تمثيلها السياسي في الخارج مع الدول الأخرى غير تمثيل الدولة المركزية، وقد تجاوبت بعض الأطراف العراقية مع هذا التوجّه وساعدته، وكان أبرزهم التحالف الكردي في الشمال والائتلاف الشيعي في الجنوب.
ومن الجليّ أنّ تقسيم العالم العربي استراتيجية صهيونية راسخة قام عليها الكيان الصهيوني، وتطلّع إليها قادته منذ نشوء اسرائيل، وقد ظهرت هذه الاستراتيجية في عدّة وثائق على مدار العقود الفائتة أوّلها: وثيقة الصحفي الهندي كارانجيا التي نشرها عام 1957، والتي توضّح استهداف اسرائيل إقامة دول طائفية في منطقة بلاد الشام والعراق، والتي يرجّح أنّ أجهزة جمال عبد الناصر سرّبتها له. ثانيها: المقال الذي نشرته مجلّة (Kivunim) ومعناها بالعربية اتجاهات في (فبراير) 1982، وهو مكتوب من صحافي ودبلوماسي اسرائيلي سابق يُدعى أوديد ينون Oded yinon، ثم تنبّهت لهذا المقال رابطة الخرّيجين العرب الأمريكيين وكلّفت البروفيسور والناشط الحقوقي الاسرائيلي المعروف اسرائيل شاحاك، أستاذ الكيمياء العضوية في الجامعة العبرية ورئيس الرابطة الاسرائيلية للحقوق الإنسانية والمدنية، بترجمته إلى الانكليزية وكتابة مقدّمة وخاتمة له، ونشر تحت عنوان “الخطّة الصهيونية للشرق الأوسط”.
وقد أثنى الدكتور حسن نافعة في سلسلة مقالات كتبها في جريدة “الحياة” عن مقال الديبلوماسي الاسرائيلي بتاريخ 27 حزيران (يونيو) 2007 فقال: “إنّ البروفسور شاحاك، وهو الدارس المعمّق للنقد الصهيوني، هو الذي أكّد في مقدّمة ترجمته الانكليزية أنّ مقال ينون يعدّ ،برغم كل ما تضمّنه من قصور وتعميمات، أشمل ما كتب في هذا الموضوع ويعبّر بدقّة عن التيار الرئيسي في الفكر الصهيوني فيما يتعلّق بخطط تفتيت العالم العربي” ثمّ بيّن المقال أنّ الاستراتيجية الاسرائيلية الصهيونية أعدّت خطة لتفتيت مصر إلى دولتين: إحداهما قبطية في الجنوب والأخرى سنّية في الشمال، وأعدّت خطة ثانية لتفتيت العراق وبلاد الشام، وأعدّت خطة ثالثة لتفتيت المغرب العربي، ورابعة لتفتيت الخليج العربي.
وتنطلق الاستراتيجية الصهيونية في كل خططها للتفتيت بأنّ العالم العربي لا يشكّل كتلة واحدة متجانسة، وإنما يتشكّل من (موزاييك) طائفي وعرقي وقبائلي ومذهبي إلخ…، وأنّ الوحدات القائمة حالياً والتي يطلق عليها اسم “الدول العربية” صنعتها مصادفات تاريخية وسياسية، وتنطلق الاستراتيجية الصهيونية -أيضاً- من أنّ أمن اسرائيل لا يتحقّق من خلال التفوّق العسكري وحده، رغم أهمّيته القصوى، ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة إلى تفكير استراتيجي جديد ومختلف، ووفقاً لهذا التفكير يتعيّن على الحركة الصهيونية أن لا تسمح بقيام أو استمرار وجود دولة مركزية كبرى في المنطقة، وأن تعمل كل ما في وسعها لتفتيت ما هو قائم منها وتحويله إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية وعرقية.
ومما يؤسف له أنّ تلك الاستراتيجية الصهيونية في تفتيت العالم العربي, والتي اعتمدتها دوائر القرار الاسرائيلية منذ نشوئها، والتي أكّدتها تصرّفاتها على مدار العقود السابقة أصبحت استراتيجية أمريكية.
وقد تحقّق ذلك بشكل كامل بعد بروز ظاهرة المحافظين الجدد في أمريكا، ويمكن أن ندلّل على ذلك بواقعتين:
الأولى: عندما قدّم المحافظون الجدد إلى نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق عندما زار واشنطن عام 1996، قدّموا له مشروعاً لتقسيم العراق، ليرتّب على أساسه الدولة الصهيونية العسكرية المقبلة وقد أُعيد تطوير وتقديم هذه الأفكار في مشروع يحمل اسم (بداية جديدة) عام 2000.
الثانية: عندما اتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي (الكونغرس) قراراً في 26 أيلول (سبتمبر) 2007، دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وقد جاء في ديباجة المشروع أنه غير ملزم للإدارة الأمريكية لكنّ الشخصيات التي طرحته وأوّلها السيناتور الديمقراطي (جوزيف بايدن) رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ والمرشّح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات 2008، وأيّدته هيلاري كلينتون على هذا القرار الذي صدر بموافقة (75) صوتاً من مجموع مائة صوت، وكان المعاون الرئيسي ل (جوزيف بايدن) في الترويج لمشروع القرار هو الصهيوني (ليزلي غلب) الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية في الكونغرس، وكان ليزلي قد طرح في 25/11/2006 أفكاراً لتنفيذ مشروع التقسيم نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” في مقالة بعنوان “حل الدول الثلاث” وتعاون (جوزيف بايدن) نفسه معه في شرح هذه الأفكار وتقديمها.
كل ذلك يدلّل على أنّ هذه الديباجة التي وردت في مقدمة المشروع لا قيمة لها، وينبئ في الوقت نفسه عن التوجّهات الاستراتيجية الحقيقية للسياسة الأمريكية، والتي أصبحت متطابقة مع الاستراتيجية الصهيونية في تقسيم العالم العربي وتفتيته، مع أنه لا مصلحة لها في ذلك، ولكنّ المحافظين الجدد ذوي التوجّهات الصهيونية هم الذين ولّدوا ذلك التطابق وسعوا إليه، لذلك علينا أن نتوقّع مزيداً من التفتيت والتقسيم للعالم العربي في قادم الأيام، ونشاهد تجلّيات ذلك في السودان ولبنان والمغرب العربي والصومال وفلسطين بالإضافة إلى العراق.
فهل هذه التقسيمات وهل هذا التفتيت هو “مشروع الشرق الأوسط الكبير” الذي بشّرنا به بوش؟ أم هو ولادة “مشروع الأوسط الجديد” الذي بشّرتنا به كونداليزا رايس على ضوء الحرائق المشتعلة في لبنان صيف عام 2006؟