الفكر القومي العربي ودوره في تصديع بناء الأمة الإسلامية
هناك مدرستان في الفكر القومي:
الأولى: فرنسية: ترى أن الدولة هي العنصر الأهم في تشكيل الأمة، فوحدة الأمة وشخصيتها مستمدة من التنظيم السياسي ولذلك فإن الدولة سابقة على الأمة وتكون سبب وجودها والعكس غير صحيح.
الثانية: ألمانية: ترى أن اللغة والثقافة هما أهم عناصر تحديد الأمة، ولكن عنصري اللغة والثقافة هوجما بشدة من قبل المستشرق الفرنسي رينان في محاضرته الشهيرة عام 1882م: ما الأمة؟ حيث أكد أن اللغة المشتركة مثلها مثل الأصل الواحد أو الدين أو المصالح كلها غير كافية بذاتها لتكوين أمة فهي عوامل مساعدة للمعيار الأهم وهو وحدة التراث، فالتاريخ المشترك أهم عوامل التقريب بين الأفراد وتوليد الرغبة في الحياة المشتركة فتنشأ الأمة التي يكون لها الولاء الأول (1) .
وبغض النظر عن هذه التقسيمات المدرسية فمما اتفقت عليه الدراسات القومية هو تقريرها أن هناك نوعين من العوامل تتداخلان في تشكيل الأمة:
الأولى: عوامل موضوعية: اللغة والتاريخ (2) ، والجنس الواحد، والإقليم الواحد، والمصالح المشتركة، والآمال الواحدة، والعادات والتقاليد الواحدة، والثقافة الواحدة إلخ…
الثانية: عوامل ذاتية: وعي الأفراد بأن لهم شخصية متميزة ومنفصلة تدفعهم إلى التعبير التنظيمي عن هذه الشخصية المتميزة.
وسيؤدي تفاعل كل هذه العناصر الذاتية والموضوعية إلى نوعين من القومية: القومية الحضارية، والقومية السياسية (3) ، أي سيؤدي الفكر القومي إلى توحيد الأمة سياسياً بعد أن كانت مفرقة، وسيؤدي إلى توحيدها الحضاري وجعلها متجانسة الثقافة والعادات والتقاليد والقيم والأخلاق بعد أن كانت غير متجانسة وغير موحّدة.
وقد أفرزت القومية في الغرب بعضاً من النتائج فبعد أن كانت ألمانيا مجزّأة إلى عشرات من الوحدات السياسية في القرن التاسع عشر أصبحت موحدة، كذلك إيطاليا بعد أن كانت مجزّأة عدة أجزاء أصبحت وحدة سياسية، هذا ما أفرزه الفكر القومي في الغرب، فكيف جرت الأمور في منطقتنا العربية؟
عندما بدأ الفكر القومي نشاطه في نهاية القرن التاسع عشر اصطدم بأن هناك أمة إسلامية قائمة وكان الجنس العربي لا يعاني أية مشكلة فيها ، بل هو أحد أطرافها الرئيسيين ، لذلك يلحظ الدارس لتاريخية الفكر القومي العربي اختلافاً كبيراً بين أهداف الفكر القومي المطروح في نهاية القرن التاسع عشر وبين أهداف الفكر القومي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ، فلم يكن تشكيل أمة مستقلة ومنفصلة عن الأمة الإسلامية واضحاً في تلك المرحلة بل أقصى ما كان يطالب به الفكر القومي هو إصلاحات متنوعة ضمن الخلافة العثمانية ، ويدل على ذلك أن المؤتمر العربي المعقود في باريس من 18-23 يونيو/حزيران 1913م تناول مسألتين هما : أولاً : حقوق العرب في الامبراطورية ، وثانياً: الإصلاح الإداري على أساس اللامركزية(4) ، وكانت البيانات التي ألقاها المندوبون للمؤتمر العربي في الأيام الستة والمناقشات التي تلتها تدور حول ضرورة الإصلاح على أساس اللامركزية ، ولم يبحث المؤتمر قضية الانفصال عن العثمانيين ولم يطالب بشيء منه.
لكن الفكر القومي استهدف بعد سقوط الخلافة العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى أمرين:
الأول : تكوين أمة عربية ذات حضارة مستقلة ومتميزة.
الثاني : تكوين أمة عربية ذات وحدة سياسية.
فهل حقق هذين الهدفين؟ لنر
إذا عدنا إلى ما قاله المفكرون القوميون عن العناصر الموضوعية والذاتية اللازمة لتشكيل الأمة، وتساءلنا: ما الذي كان يملكه منها الفكر القومي العربي؟ نجد أنه لم يكن يملك العنصر الذاتي وهو وعي الأفراد بانتمائهم إلى الأمة العربية، لأن أبناء بلاد الشام والعراق والحجاز وهي البلاد التي انطلق الفكر القومي منها غداة الحرب العالمية الأولى كانوا ينتمون بالفعل والحقيقة إلى الأمة الإسلامية، وكانوا يعُوُن هذا الانتماء ويعتزون به، وهو انتماء راسخ لأكثر من ألف عام. وإذا عدنا إلى العوامل الموضوعية: كالتاريخ واللغة(5) والثقافة والعادات والتقاليد والفنون والآمال وغيرها من العوامل، فإننا نجدها مرتبطة بالإسلام ارتباطاً وثيقاً وتدور حوله، وتتغذّى منه، فلو أخذنا التاريخ لوجدناه مرتبطاً بمعارك الإسلام مع أعدائه، وبانتصار المسلمين وهزيمتهم، وبقوّة دولة المسلمين وضعفها. ولو أخذنا اللغة العربية لوجدناها أصبحت لغة الأمة الإسلامية والثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية ، وأصبحت مرتبطة بالقرآن الكريم فالجهود التي بذلت في وضع قواعد النحو ، وفي تنقيط الحروف العربية وتشكيلها ، وفي وضع أصول معاجم اللغة استهدفت خدمة آيات القرآن الكريم من أن يدخلها التحريف واللحن ، ومن أجل أن تفهم على الوجه الصحيح ، وقد كان معظم الذين قاموا بتلك الجهود والابتكارات من غير العرب وليس لسانهم العربية ، إنما اهتموا باللغة العربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها لأنها لغة دينهم وقرآنهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم (6).
ولو تفحصنا العوامل الموضوعية الأخرى في تكوين الأمة فتناولنا الثقافة لوجدناها منوطة بموازين الإسلام وتوجيهاته وقيمه، ولو دققنا في العادات والتقاليد لوجدناها منبثقة من تعليمات القرآن الكريم وسنّة الرسول r ومن أوامر الإسلام ونواهيه ومن الحلال والحرام اللذين أقرهما الشرع، ولو تفحصنا الفنون لوجدناها مرتبطة بقيم الجمال الإسلامية، ولو دققنا في الآمال المشتركة لوجدناها مرتبطة بحب الإسلام وبالرغبة في صموده وانتصاره وبموالاة المسلمين ومعاداة الكافرين إلخ…
أمام هذا الواقع وأمام عدم امتلاك الفكر القومي العربي لأية عناصر ذاتية أو موضوعية خاصة به اتجه الفكر القومي العربي إلى الحضارة الغربية فأخذ تصوراته وقيمه وثقافته ومُثُله وأهدافه وتطلعاته منها ، لذلك كانت الدولة القومية الغربية مثاله الذي يتطلع إليه ، والحياة الغربية هي النموذج الذي ينسج على منواله ، والإنسان الغربي هو الشخصية التي يجتهد في أن يحققها ، ولما كان المحيط الذي عمل فيه هذا الفكر هو الأمة الإسلامية التي صبغ الإسلام حياتها ، وتجذّر في كيانها ، وتغلغل في تفاصيل عاداتها وتقاليدها ، ولوّن ثقافتها ، لذلك كان معظم عمل الفكر القومي خلال المائة سنة الماضية التصادم مع الإسلام ، ومحاولة اقتلاعه من حياة الناس ، والتشكيك في القيم والثقافة والموروثات الإسلامية ، وإحلال القيم الغربية ، وصبغ حياة الناس بالنموذج الغربي ، وتزيين الثقافة الغربية ، وحين لم ينجح في هذا الإحلال وفي إلغاء وجود الأمة الإسلامية بشكل كامل في الستينات من هذا القرن ظن أن الخلل في كونه نقل الجانب الليبرالي من الحضارة الغربية فاتجه إلى الجانب الاشتراكي من الحضارة الغربية يحمل الأمة عليه وكانت النتيجة مماثلة للمرحلة السابقة أن الفكر القومي العربي لم ينجح في تكوين أمة ذات شخصية حضارية مستقلة ، بل صدّع كيان الأمة الموجودة القائمة وساهم في إضعافها مما أدى إلى ترسيخ أكبر عدو لها هو إسرائيل إثر حرب حزيران 1967م وتوسيع كيانها فبعد أن كانت في جزء من فلسطين أخذت سيناء والضفة الغربية والجولان . أما بالنسبة لتكوين أمة عربية ذات وحدة سياسية فإن هذا الهدف لم يتحقق فحسب بل ترسخت القطرية بشكل لم يعرفه تاريخ المنطقة خلال أكثر من ألف عام، وظهر التأصيل المقيت لهذه القطرية حتى أصبحت وحدة الأمة في خطر حقيقي.
ما السبب في تعثّر الفكر القومي العربي وعدم تحقيق أهدافه في تكوين أمة عربية ذات شخصية حضارية مستقلة وذات وحدة سياسية؟ هناك سببان:
الأول : النقل الحرفي لتجارب أوروبا وأفكارها دون مراعاة ظروف المنطقة ، فقد نشأ الفكر القومي في أوروبا نتيجة ظروف تاريخية واقتصادية وعلمية مختلفة منها : تصدع التحالف المقدس بين النظم الامبراطورية والكنيسة المسيحية ، والثورة على النظم الإقطاعية الملكية وتحطيمها وإقامة جمهوريات شعبية مكانها ، وتصدع الكنيسة المسيحية وبروز المذهب البروتسنتي ، وتصدع النظام الإقطاعي وبروز النظام الرأسمالي معتمداً على طبقة بورجوازية جديدة ، وقيام نهضة علمية تعتبر الدين مرادفاً للخرافة والوهم ومعادياً للعقل والعلم إلخ… هذه هي بعض الظروف التي أفرزت الفكر القومي الذي أدى إلى بلورة كثير من أمم أوروبا ، وليس شيء من هذه الظروف موجوداً في منطقتنا العربية .
الثاني: وجود أمة متجذّرة في ساحة عمل الفكر القومي هي الأمة الإسلامية في حين أن الفكر القومي الأوروبي عندما عمل في ساحة ألمانيا أو إيطاليا أو غيرها عمل على توليد أمم كانت غير متبلورة، لذلك لعب الفكر القومي في أوروبا دوراً في بناء بعض الأمم في حين أنه لعب دوراً آخر في منطقتنا هو تصديع بناء الأمة الإسلامية، ونشر التغريب بين أبنائها، فكانت النتيجة انقسام الأمة إلى ثلاث طوائف:
الأولى : انساقت في طريق التغريب.
الثانية: ضاعت فلم تستطع التكيّف مع الحضارة الغربية ولم تستطع المحافظة على انتمائها الإسلامي.
الثالثة : حافظت على انتمائها للأمة الإسلامية وثبتت عليه.
هذه أضواء سريعة على نشأة الفكر القومي العربي ودوره في تصديع بناء الأمة الإسلامية، ولا يمكن أن نفهم مجريات الأمور في الفترة الحديثة إلا بدراسة الفكر القومي بشكل عام والفكر القومي العربي بشكل خاص، والأمر يحتاج إلى دراسات أخرى من أجل أن نفهم الحاضر لننطلق إلى بناء المستقبل.
الهوامش:
(1) موسوعة العلوم السياسية، إصدار جامعة الكويت، مادة 257، ص 405.
(2) ساطع الحصري، ما هي القومية؟ ص 251.
(3) أبو الأعلى المودودي، الأمة وقضية القومية، ترجمة الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، ص 174 وما بعدها.
(4) المؤتمر العربي الأول المنعقد في قاعة الجمعية الجغرافية في شارع سان جرمان، ص10.
(5) ارتبط المفكرون القوميون العرب بالمدرسة القومية الألمانية أكثر من المدرسة الفرنسية وذلك لبروز عنصري اللغة والتاريخ عندها، انظر ما كتبه زكي الأسوزي عن اللغة العربية في كتاب (العبقرية العربية في لسانها).
(6) لا يحتّم وجود لغة عربية انبثاق أمة عربية فتوليد أمة عربية أعقد من ذلك بكثير، لذلك فإن المفكرين القوميين يقولون: تملك كثير من الشعوب لغة واحدة ولم يتولد عنها أمة واحدة، والعكس صحيح أيضاً: تملك كثير من الشعوب أكثر من لغة وكوّنت أمة واحدة.