في البداية يجب أنْ نُقرِّر أنّ غياب المراجعات في شأن الثورات التي قامت هو أحد أسباب فشلها، ولو أخذنا الثورات التي حدثت خلال نصف القرن الماضي من أمثال الثورة السورية عام 1980م، والجهاد الأفغاني الذي بدأ عام 1979م، وثورة جنوب الفلبين التي قادتها حركة تحرير مورو عام 1970م إلخ…، وأحصينا عدد الدراسات التي تناولت تلك الثورات ونتائجها لوجدناه محدوداً جداً، إن لم يكن مفقوداً، وهذا يعود إلى ضعف الجانب التقويمي والنقدي في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
وهذا مخالف لنهج القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، ومما يؤكد ذلك حديث القرآن الكريم المفصل عن كل الوقائع التي حدثت مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من غزوات كبدر وأحد والخندق وتبوك وحنين إلخ…، وأحداث كواقعة الإفك وواقعة الهجرة النبوية المشرفة، فقد نزل الوحي الإلهي مُحدِّداً ما هو الصواب وما هو الخطأ في تصرفات الصحابة، ومُوجهاً لهم إلى فِعْل الأفضل، ومُثنياً مرة، ومُعاتباً أخرى، ومُهدداً لهم ثالثة، المهم أن هناك تقويماً ونقداً لتصرفات الصحابة بعد كل واقعة وبعد كل مرحلة.
وسنأخذ غزوة “أُحُد” مثالاً على التقويم الذي مارسه القرآن الكريم في مسيرة الصحابة، فنجد أن آيات تحدثت عن كثير من تفصيلات المعركة، وعن كثير من تصرفات الصحابة، وأشار القرآن الكريم في الآيات الكريمة عن غزوة “أُحُد” إلى انسحاب طائفتين من المقاتلين فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران:122].
ثم ذكّرهم القرآن الكريم بانتصارهم في بدر ونزول الملائكة للمقاتلة معهم فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ﴾ [آل عمران:123-124].
ثم بيّن القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أن الأمر كله لله فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران:128].
ثم ذكّر القرآن المسلمين إلى النظر في سنن الله التي تقوم على إهلاك المكذّبين فقال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137].
ثم بيّن القرآن الكريم للمسلمين الحكمة من وجود بعض الهزائم وهي أن يكون هناك اختبار وتمحيص للمؤمنين فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾[آل عمران:140-141].
ثم تحدّثت الآيات الكريمة عن بعض صور التمحيص، ومنها: إشاعة مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة “أُحُد”، وبيّنت التصرف السليم في حال وقوع مثل هذا الأمر فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾[آل عمران:144].
ثم بيّن القرآن الكريم سبباً من أسباب خسارتهم لغزوة “أُحُد” وهو تنازعهم، وتوزّع إرادتهم بين الدنيا والآخرة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:152].
ثم بيّن القرآن الكريم للصحابة أنّ طاعتهم للشيطان كانت السبب في هزيمتهم فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾[آل عمران:155].
ثم وجّه القرآن الكريم الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبيّن زرع الله الرحمة في قلبه، ثم أمره أن يعفو عنهم وأن يستغفر لهم وأن يشاورهم فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل عمران:159].
وإذا تفحصنا الثورة السورية التي انطلقت في 15/03/2011م كجزء من ثورات الربيع العربي، وأردنا أن نُجري مراجعة لما سبق من أحداث الثورة، وتحدثنا عن أهم العقبات، وكيفية معالجتها، نجد أن أبرز عقبة واجهت الثورة هي التوحد والوحدة على عدّة أصعدة في المجالات: السياسية والعسكرية والعُلمائية، وبخاصة أن النظام الأسدي الطائفي المستبد كرّس الانقسام، وعمّقه في حياة المجتمع السوري من أجل أن يُمكّن سيطرته عليه، ويطيل أمدها.
فنجد أن أنجح تجربة في التوحد والوحدة هي تجربة العلماء في سورية، فقد عقدت رابطة العلماء السوريين مع أطراف أخرى أول مؤتمر لنصرة الثورة السورية في شهر تموز (يوليو) من عام 2011م تحت اسم “مؤتمر العلماء لنصرة الثورة السورية”، ثم التقت عدّة أطراف عُلَمائية وشكّلت “المُلتقى السوري الأول” في كانون الثاني (يناير) من عام 2012م، ثم تشكّل “مكتب التنسيق بين روابط العلماء والهيئات الإسلامية السورية” في عام 2013م، وضمّ عدداً من الروابط والهيئات العُلَمائية، ثم كانت آخر خطوة وهي تشكيل “المجلس الإسلامي السوري” الذي تشكّل في شهر نيسان (إبريل) من عام 2014م، وضمّ كل الفصائل العُلَمائية تقريباً في سورية، كما ضمّ عدداً من الممثلين الشرعيين في الفصائل السورية المقاتلة.
لذلك نستطيع أن نُقرّر أنّ ساحة العلماء كانت الساحة الأسرع إلى تحقيق الوحدة بالمقارنة مع الساحتين الأخريين: السياسية والعسكرية.
وربما كانت الساحة السياسية هي الساحة الثانية في تحقيق الوحدة والتوحد، فقد شكّلت “المجلس الوطني السوري” في نهاية عام 2011م، ثُم شكّلت بعد ذلك “الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة” في نهاية عام 2012م، ثُم أَدخَلَت عليه عدّة فصائل وقوى سياسية في مراحل لاحقة، لكنه يبقى بحاجة إلى تعديلات ومراجعات في تشكيلاته وأهدافه ووسائله من أجل تحقيق أهداف الثورة السورية وأبرزها: إزالة نظام الطاغية بشار الأسد وأسرته، والارتفاع إلى مستوى التضحيات والدماء والشهداء التي قدمها الشعب السوري خلال السنوات الأربع من عُمْر الثورة، والتي وصلت حداً غير مسبوق في عُمْر الثورات.
لكن تبقى الساحة الأضعف في تحقيق الوحدة والتوحد هي الساحة العسكرية، فمن الصحيح أنه تشكّلت خلال مسيرة الثورة السابقة عدّة تجمعات من مثل: جبهة ثوار سورية، الجبهة الإسلامية السورية، اتحاد أجناد الشام إلخ…، لكن الساحة تحتاج إلى توحيد أشمل، ووحدة أوثق، لأن الجبهات والتجمعات التي تشكّلت فيما مضى كانت محدودة التمثيل والقوّة بالمقارنة مع حجم القُوى العسكرية الموجودة والتي تُغطي الساحة السورية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
وإنّي أعتقد أن الطرف المُؤهل لتحقيق مثل هذا التوحد والوحدة في الساحة العسكرية هو “المجلس الإسلامي السوري”، وقد قام بِجُهْدٍ طيب في هذا المجال منذ إنشائه، وحقق بعض النتائج، لكن الأمر يحتاج إلى مواصلة الجهود من أجل تحقيق نتيجة أكبر في التوحّد الكامل، لأنِّ مصير الثورة ونجاحها مرهون بتحقيق الانتصار العسكري على النظام المجرم، لأنه نظام قام على البطش والقتل والقهر ولا يراعي أية قيمة أخرى، ولن يكون هناك انتصار ما لم تكن هناك وحدة للفصائل العسكرية المقاتلة، لأنها أضعف من النظام عندما تكون متفرقة، وتصبح أقوى عندما تتوحد، وهناك تجارب تؤكد تلك الحقيقة، فالانتصارات التي حدثت في إدلب وجسر الشغور في الشمال، وفي درعا في الجنوب، في الفترة الماضية القريبة قد تمت بعد تشكيل غُرَف موحدة من عدّة فصائل تحت اسم “جيش الفتح” وغيره.
الخُلاصة: إنَّ مراجعة الأعمال وتقويمها منهج قُرآني وسنة نبوية، ولقد طبقنا هذا النهج على الثورة السورية، فوجدنا أنَّ التوحد والوحدة شيء مطلوب لنجاح الثورة السورية، ووجدنا أن الساحة العُلَمائية أسبق من غيرها في تحقيق التوحد وهي قد شكّلت “المجلس الإسلامي السوري”، وأنَّ أضعفها في التوحد هي الساحة العسكرية، ورأينا أن أبرز واجب على الساحة العُلَمائية الاستمرار في بذل الجهد الكبير من أجل تحقيق هذا التوحد في الساحة العسكرية للثورة السورية من أجل الانتصار على النظام المجرم الذي لن يتنازل عن بطشه وجبروته إلاّ بالانتصار العسكري ثم بالعمل السياسي.
رابط المقال من موقع السورية نت مراجعات من أجل ترشيد الثورة السورية