العمل التراكمي وأهميته في تحرير فلسطين ماضياً وحاضراً

إن أمتنا لم تبخل بدمائها ولا بأموالها في سبيل إنجاح قضية فلسطين، والانتصار على أعدائنا، واسترداد حقوقنا، ولكننا – وبكل أسف – نجد أن ذلك الانتصار لما يتحقق بعد، والمؤكد أن هناك عدة أسباب وراء عدم الانتصار، أحدها:

غياب التراكم في البناء، فقد جاء الانتصار على الغزوات الصليبية في القرن الثاني عشر نتيجة بناء اللاحق على السابق، فقد بدأت الدولة الزنكية القتال بقيادة عماد الدين الزنكي، ثم أكمل الانتصار الدولة الأيوبية بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ثم أنهت الانتصارات وأنجزت طرد الصليبين دولة المماليك بقيادة الظاهر بيبرس وقطز.

أما الآن فنجد أن هذا العنصر غير متحقق خلال المائة سنة الماضية، وهو غياب التراكم في البناء، بين الحركات التي تصدت للاستعمار بدءا من الحركة الجهادية التي أسسها عز الدين القسام، إلى حركة فتح التي أسسها ياسر عرفات، إلى حركة حماس التي أسسها الشيخ أحمد ياسين.

العمل التراكمي وأهميته في تحرير فلسطين ماضياً وحاضراً

مجيء الصهاينة إلى فلسطين وإقامتهم مستوطنات بعد الحرب العالمية الأولى استدعى مقاومة، فنشأت حركات متعدّدة لمقاومة هذا الاحتلال، وكان من أبرزها في المرحلة التي سبقت قيام اسرائيل حركتان: حركة الحاج أمين الحسيني وحملت اسم “الهيئة العربية العليا لفلسطين” وتمحورت حول المؤتمر العالمي للقدس الذي انعقد في عشرينات القرن الماضي، والحركة الثانية: هي حركة الشيخ عزّ الدين القسّام الذي قاد جهاداً، وفجّر ثورة، وأنشأ مقاومة عسكرية في مواجهة الاحتلالين: الإنجليزي والصهيوني وحملت اسم “الجهادية”.

وقد لعبت الحركة الأولى دوراً سياسياً أكثر، بينما لعبت الحركة الثانية دوراً قتالياً أكثر، وقد تعاونت الحركتان في مرحلة لاحقة من التاريخ الفلسطيني، وتكامل جهدهما إلى حدّ ما في نهاية الثلاثينات وخلال الأربعينات من القرن الماضي، وتعاون رجالهما تعاوناً مثمراً.

ثم تشكّلت حركة تحرير فلسطين “فتح” عام 1957 بعد قيام اسرائيل، وتوجّهت إلى مقاتلة اسرائيل عام 1965، وأنشأت جناحاً عسكرياً تحت اسم “العاصفة”، ثم استلمت “فتح” قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968، ثم وقعت اتفاق أوسلو عام 1993 في البيت الأبيض، وهو الذي أعطى “فتح” تحريراً موهوماً لغزّة والضفة الغربية، وقد أعطاها -كذلك- سلطة شكلية فارغة من أيّ محتوى حقيقي للسيادة والتمكين، وقد كان الثمن الذي دفعته “فتح” من أجل الحصول على هذا التحرير الموهوم هو إطفاء الانتفاضة الأولى التي حقّقت تغييراً نوعياً في علاقة العرب بإسرائيل، والتي هدّدت اسرائيل لأول مرّة تهديداً حقيقياً، ثم انبثقت “حماس” رسمياً في آب (أغسطس) عام 1988، وبنت على هذا التحرير الموهوم، ودخلت الانتخابات التشريعية في كانون الثاني (يناير) 2006، وكسبت أغلبية أعضاء المجلس التشريعي، ثم تصارعت مع “فتح” على هذا التحرير الموهوم، وسال الدم الفلسطيني في 14 حزيران (يونيو) 2007، وأضعف هذا الاقتتال الموقف الفلسطيني، وقوّى العدو الصهيوني.

ومن المؤكّد أنّ اسرائيل ستستغل ضعف الموقفين: الفلسطيني والعربي اللذين بلغا درجة في السوء لم يبلغاها في أيّة مرحلة سابقة من ناحية الانقسام والاقتتال والتشرذم، فالشعب الفلسطيني منقسم تحت حكومتين متصارعتين متقاتلتين: واحدة في الضفة والثانية في غزّة، والدول العربية منشغلة بالاقتتال ومهدّدة بالانقسام بدءاً من العراق ومروراً بلبنان وانتهاء بالصومال والسودان، فمن المؤكّد أنّ اسرائيل ستستغل هذا الضعف وتدفع بالقضية الفلسطينية إلى الوراء خلال عام 2007، وتحقّق نقلة نوعية في اتجاه (الترانسفير)، أو باتجاه إعادة الضفة إلى الأردن وغزّة إلى مصر أو غير ذلك، أيّ باتجاه إلغاء النتائج المأمولة للتحرير الموهوم، والتي كانت تتطلّع إلى استرداد القدس أو إلغاء المستوطنات أو الإقرار بحق العودة إلخ…

وبالعودة إلى تاريخ الحروب الصليبية نجد أنّ الدولة الزنكية التي أسّسها عماد الدين الزنكي في الموصل وقادت المقاومة الإسلامية بعد احتلال القدس 1099م، واستطاعت أن تحرّر الرها من أيدي الصليبيين في عام 1044م، وكان هذا الانتصار صاعقاً للصليبيين، وكان مؤشّراً على نهاية الصعود لهم، ومؤشّراً على بداية الانتصار للمسلمين.

ثم استلم نور الدين الزنكي راية المقاومة فحرّر حلب وضمّها إلى إمارة الموصل، ثم اتجه إلى مصر، وأرسل صلاح الدين الأيوبي إليها ليعالج الموقف، ثم وقعت معركة حطين 1178م والتي انتهت بانتصار صلاح الدين على الصليبيين، وكانت تلك المعركة هي الفاصلة في استرداد القدس، وكانت إيذاناً بانتهاء الحروب الصليبية، وقامت الدولة الأيوبية بعد ذلك لتكمل ما بدأته الدولة الزنكية، وبنت على ما أنجزته.

واستمرّت الانتصارات تتوالى على الصليبيين، ثم جاءت الدولة المملوكية لتكمل ما بنته الدولتان الزنكية والأيوبية ولتحقّق الانتصار الكبير على الهجمة المغولية التي أسقطت بغداد ولتوقف الزحف المغولي في عين جالوت عام 1258م.

وإذا قارنّا بين حركات المقاومة التي تصدّت للهجمة الصليبية وبين حركات المقاومة التي تصدّت للهجمة الصهيونية المعاصرة نجد أنها -جميعاً- استفادت من رصيد الأمّة الثقافي المملوء بالحضّ على الاستشهاد والتضحية والفداء والعطاء، وبنت على هذا الرصيد في مواجهتها للمحتلّين، ونشّأت كوادرها على هذا الموروث الثقافي.

لكنها تفترق في أنّ الأولى استطاعت بعد أربعين سنة أن تقلب ميزان القوى لصالح الأمّة، وأنجزت تحرير الأرض، فبدأت بالرها وتعاظم التحرير حتى انتهى بالقدس بعد أقل من ثمانين عاماً، وأنّ هناك تكاملاً في الجهود، فالدولة الأيوبية والمملوكية أكملت ما بدأته الدولة الزنكية.

في حين أنّ حركة “فتح” استفادت من الحاج أمين الحسيني وعز الدين القسّام لكنها حقّقت بعد خمسين سنة تحريراً موهوماً، فأنشأت بناء على اتفاق أوسلو سلطة ودولة لا تملك أيّة مقوّمات حقيقية للدولة والسلطة، ولم تصل إلى أيّ إنجاز حقيقي على أرض الواقع، وأنّ “حماس” تصارعت مع “فتح” على هذا التحرير الموهوم، وكان على “حماس” أن لا تأبه لهذا التحرير الموهوم وتأخذ إيجابيات “فتح”، وتكمل ما بناه الحاج أمين الحسيني وعزّ الدين القسّام على الأرض لتصل إلى تحرير حقيقي، وتستردّ بعض الأرض المحتلة ضمن سيادة كاملة كما فعلت الدول: الزنكية والأيوبية والمملوكية في مرحلة الحروب الصليبية.

اترك رد