تحديث المنطقة العربية بين أمريكا وانجلترا

اهتمت أمريكا بتحديث المنطقة العربية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وزاد اهتمامها بهذه المسألة بعد احتلالها العراق، لأنها تريد أن تجعل العراق مفتاح التحديث للمنطقة العربية كلها، فهي تريد أن تنقل عالمنا العربي من مجتمع الاستبداد والرأي الواحد والكراهية والتعصب، إلى مجتمع الحرية وتعدد الآراء والانفتاح والمبادرة الفردية والديمقراطية والعلمانية والعقلانية إلخ…

        اتضح الاهتمام الأمريكي بتحديث المنطقة العربية من خلال عدة مؤشرات أبرزها: تأليف بعض الكتب عن المسألة من قبل بعض كبار المستشرقين كبرنارد لويس، وكتابة بعض المقالات من قبل كتاب مرموقين على علاقة بصنع القرار في الإدارة الأمريكية كفرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون اللذين كتبا مقالين في مجلة “نيوزويك” الأسبوعية في نهاية عام 2001م عن أحداث 11 سبتمبر، وكفؤاد عجمي الذي كتب مقالاً في الـ “فورين أفيرز” تحت عنوان “العراق ومستقبل العرب” في العدد الصادر عن شهري يناير/فبراير 2003م، وإصدار مبادرات حكومية رسمية لمعالجة مسألة التحديث وأهمها المبادرة التي أعلن عنها كولن باول تحت عنوان “قيادة الشراكة الأمريكية الشرق الأوسطية” بتاريخ 12/12/2002م، وقد دعت كل المقالات والدراسات والمبادرات إلى تحديث المنطقة العربية باعتماد الديمقراطية العلمانية والعقلانية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق والليبرالية إلخ…

        من الجلي أن المعالجات الأمريكية لتحديث العالم العربي انطلقت جميعها من الكلام عن تخلف العرب الثقافي، وسوء الوضع الاقتصادي، وتفشي الاستبداد السياسي، وسعة انتشار الأمية، والمستقبل المظلم الذي ينتظر الأجيال القادمة، وتردي أوضاع المرأة الاجتماعي، وتدني المستوى التعليمي إلخ…

        استهدف التحديث الأمريكي للمنطقة العربية أربعة أمور: إصلاح الجانب السياسي بنشر الديمقراطية وثقافة الحرية وتعدد الآراء وحقوق الإنسان إلخ…، وإصلاح الجانب الاقتصادي بإطلاق الحرية الاقتصادية ، وتشجيع المبادرات الفردية، وربط اقتصاد المنطقة بالاقتصاد العالمي إلخ…، وإصلاح وضع المرأة من خلال تعليمها، ورفع الظلم الواقع عليها حسب زعمهم، وإعطائها فرصتها الكاملة في العمل إلخ… وإصلاح التعليم ونقله من التلقين إلى الإبداع، والتركيز على تعليم اللغة الانكليزية إلخ…

        وهذه المسائل التي تحدثت عنها الإدارة الأمريكية، ومفكرو أمريكا من أجل إصلاح الشرق الأوسط هي المسائل التي تحدثت عنها انجلترا في مطلع القرن العشرين: الديمقراطية، واقتصاد السوق، وتحرير المرأة، والتعليم إلخ… وقد عالج طه حسين مسألة التحديث في كتاب مستقل صدر في عام 1936م بعد استقلال مصر تحت عنوان “مستقبل الثقافة في مصر”، ونحن سنستعرض بشكل سريع بعض ما تحدث عنه من أجل التأكيد على أن ما تعالجه أمريكا حالياً هو نفس ما عالجته انجلترا في مطلع القرن العشرين، فماذا جاء فيه؟

        تحدث في بداية الكتاب عن العقل المصري، وجعل انتماءه إلى العقل الأوروبي من أجل أن يسهل التحديث على مصر، وامتدح الخديوي اسماعيل عندما قال: “إن مصر جزء من أوروبا”، واعتبر الرقي يكون بأخذ ما عند الأوروبيين من نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية، ودعا إلى زيادة الاتصال بأوروبا حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى، حقيقة وشكلاً، ونأخذ الحضارة الغربية، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب. وتحدث طه حسين بعد ذلك عن التعليم، واللغات الأجنبية وواجبات المعلم، وواجبات الدولة اتجاه المعلم، والأزهر، واللغة العربية، والعلوم الدينية إلخ…

        حلت انجلترا مسألة التحديث بعد الحرب العالمية الأولى في عدد من الدول بشكل متشابه، فلو أخذنا العراق كمثال على هذا التحديث لوجدنا أنه صدر دستور في عام 1924م لتحقيق نموذج ديمقراطي، فحدّد الدستور الحقوق والواجبات، وأرسى الانتخابات، وتشكلت أحزاب سياسية متعددة، وصدرت صحف ومجلات، وقام اقتصاد حر مرتبط باقتصاد السوق، وانتشر تعليم المرأة، ودخلت سوق العمل الاقتصادي. والأهم من ذلك أن جيلاً كان موجوداً مؤمناً بذلك التحديث والديمقراطية وعلى رأسهم كامل الجادرجي ومن ضمنهم طه الهاشمي وصالح جبر وجعفر العسكري وعلي جودة الأيوبي إلخ…

        ولو أخذنا مصر كنموذج آخر على تحديث انجلترا لمنطقتنا العربية لوجدنا أن ثورة 1919م التي قادها سعد زغلول أفرزت دستوراً في عام 1923م وانبثق عن الدستور برلمان وحكومة منتخبة مسؤولة أمام البرلمان، وتشكّلت أحزاب سياسية فعّلت الحياة السياسية، أبرزها: الوفد والأحرار الدستوريون، وصدرت صحف مختلفة، وقامت بنوك وطنية وشركات أهلية على مبدأ التنافس الحر، وانبثق جيل مؤمن بالتحديث بالديمقراطية والليبرالية والحضارة الغربية منهم: أحمد لطفي السيد، عباس محمود العقاد، حسين مؤنس إلخ… فماذا كانت نتائج التحديث في أكبر قطرين عربيين؟ كانت النتيجة فشل التحديث إذ لم يترسّخ، ولم تصبح الحداثة جزءاً من شخصية المنطقة، والسبب أن عملية التحديث لم تنطلق من واقع المنطقة وشخصيتها الحضارية التاريخية، ولم تعط وزناً للدين الإسلامي، فكانت النتيجة فشل التحديث في مختلف المجالات، وبروز الصحوة الإسلامية رغم أنف انجلترا.

        والسؤال الآن: هل ستنجح أمريكا في تحديث المنطقة العربية؟ وهل ستستطيع أن تفرض التحديث عليها؟ أم أنها ستفشل كانجلترا؟ الأرجح أنها ستفشل كانجلترا، وذلك لأن تحديثها لا ينطلق من واقع المنطقة، ولا يراعي ظروفها، ولا يخدم شخصيتها التاريخية، ولا يعطي أي وزن لدينها الإسلامي، بل تريد أن تفرض قيمها ونموذجها الحضاري وتحديثها كما فعلت انجلترا، فسيفشل التحديث الأمريكي للمنطقة العربية في القرن الحادي العشرين، كما فشل التحديث الإنجليزي لها في القرن العشرين.

اترك رد