الشرق الأوسط بين الجديد والكبير

الشرق الأوسط بين الجديد والكبير

شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل السابق أول من تحدّث عن “الشرق الأوسط الجديد” في عام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو في حدائق البيت الأبيض بين اسحاق رابين وياسر عرفات، وكان تصوّر بيريز قائماً على أنّ وحدة اقتصادية ستتحقّق بين المنطقة العربية وإسرائيل، وستجمع هذه الوحدة الاقتصادية بين العبقرية الصهيونية في القيادة، والأيدي العربية الرخيصة المستخدمة في التصنيع، والثروة العربية المتكدّسة من بيع البترول إلخ…، وكان التفاؤل سيد الموقف آنذاك، والسبب في ذلك هو الاعتقاد بأنّ اللقاء الفلسطيني-الإسرائيلي كسر آخر الحواجز في الممانعة بين العرب وإسرائيل، ولم يبق إلا التداخل والتواصل والتلاحم إلخ…، وذهبت الأحلام بعيداً في رسم صورة “الشرق الأوسط الجديد”، وخصّصت لكل دولة ما يجب أن تفعله وتنتجه، فإسرائيل ستتخصّص بالالكترونيات والحاسبات، ومصر بالسياحة إلخ…، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، وتعثّر اتفاق أوسلو الذي كان الشرارة في كل تلك الأحلام، والسبب في ذلك أنّ إسرائيل تريد أن يكون لها كل شيء ولا تريد أن تعطي شيئاً للآخرين، وكانت نهاية الحلم كابوساً مزعجاً، فصانعا الحلم نُحرا: اسحاق رابين وياسر عرفات، الأول: نحره أهله، والثاني: نحره محالفوه.

ثم صار الحديث عن “مشروع الشرق الأوسط الكبير“، وطرح بوش هذا المشروع بعد احتلال العراق، ونوقشت بنود المشروع في اجتماع الدول الثمانية الصناعية الكبرى في يوليو 2004 في جزيرة ايلاند، وأبرز ما جاء في المشروع آنذاك هو الدعوة إلى الديمقراطية، والتغيير الثقافي، وحقوق الإنسان، والتأكيد على حقوق المرأة، وإنهاء الأُمّية إلخ…، وقد وضعت برامج تفصيلية تحقّق تلك الأهداف، كما رصدت ميزانيات مالية من أجل الإنفاق على تلك البرامج بين الدول الثمانية. لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، بل تحقّقت الفوضى التي أسموها “الفوضى الخلاقة”، وتجلّت هذه الفوضى في أبهى صورة في العراق فالدمار يعمّ كل شيء: البناء والطرق والجسور إلخ…، والكل يقتل الكل: السنة والشيعة والأكراد والصابئة إلخ…، والجميع يتآمر على تقسيم العراق، ولم تتحقّق ديمقراطية ولا حقوق إنسان ولا ارتقاء ثقافياً ولا محو أُمّية إلخ…

ثم طلعت كونداليزا رايس علينا بمقولة “الشرق الأوسط الجديد” أثناء التدمير غير المسبوق للبنان، ورافق مقولتها مقال للضابط الأمريكي السابق رالف بيترز، نزل في مجلة القوات الأمريكية عدد تموز (يوليو) تحت عنوان “حدود الدم” وهو جزء من كتاب “لا تترك القتال أبداً” يرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي أشارت إليه كونداليزا رايس، وجاء في ذلك المقال أنّ السبب في اضطراب الشرق الأوسط هو عدم تطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الإثنية والطائفية والعرقية في المنطقة، والسبب في ذلك أوروبا التي قسّمت الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى لم تراع ذلك وراعت أهواءها وبعض المصالح الخاصة، وأشار المقال أيضاً إلى ضرورة تصحيح الجوانب الحدودية من أجل التوصّل إلى شرق أوسط مستقرّ، واقترح المقال صورة جديدة للشرق تقوم على تفصيلات متعدّدة منها إقامة ثلاث دول في العراق: كردية في الشمال وسُنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب، واقترح أن تلتحق الدولة السُنّية المجزوءة من العراق في وقت تالٍ بسورية، واقترح “مشروع الشرق الأوسط الجديد” تفكيك السعودية ووضع الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة تحت وصاية دولية، وإلحاق شمالي السعودية بالأردن، وإلحاق جنوبي السعودية باليمن، كما اقترح مشروع الشرق الأوسط الجديد إيجاد دولة شيعية تجمع بين جنوب العراق وتأخذ جزءاً من الإمارات وجزءاً من السعودية، كما استهدف المشروع تغييراً في حدود كل دول الشرق الأوسط كسورية وإيران ومصر وباكستان ولبنان إلخ… والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: ما الهدف النهائي من هذه المشاريع المطروحة بين وقت وآخر بدءاً من “مشروع الشرق الأوسط الكبير” وانتهاء بـ “مشروع الشرق الأوسط الجديد”؟ وما الملامح التي تجمع بينها؟

أولاً: تلتقي هذه المشاريع على أهداف دعائية كبيرة من مثل تحقيق الأمن والسلامة والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإزالة الأُمّية وإقامة العدل إلخ…، لكنّ هذه الأهداف تبقى في حدود الدعاية، ولا يتحقّق شيء منها على أرض الواقع، وينطبق عليها المثال الذي راج عن الشيوعية إبّان انتشارها: “اقرأ عن الشيوعية تفرح، جرّب تحزن”.

ثانياً: تحرك هذه المشاريع النـزعة الطائفية والتفتيت الطائفي وتستهدف وحدة الأُمّة العربية والإسلامية بحجّة الظلم الذي لحق هذه الطوائف والأعراق خلال التاريخ الماضي، وهذا الاستهداف للإحياء الطائفي يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويمكن أن نتأكّد من ذلك باستعراض السياسة الأمريكية في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، فهي لا تمارس هذا الدور من التفتيت الطائفي مع أنّ تعدّد الطوائف والأعراق والأجناس موجود في تلك المناطق وبصورة أكبر مما هو موجود في المنطقة العربية.

ثالثاً: مما زاد في الحرص على تنفيذ مخططات التفتيت الطائفي في المنطقة وجود المحافظين الجُدُد في قيادة أمريكا، ومن الواضح أنهم صهاينة مثل صهاينة إسرائيل إن لم يكونوا أكثر صهيونية، إذ يشاركون الإسرائيليين آلامهم وآمالهم وأحلامهم، ويلتقون مع صهاينة إسرائيل في بعض الرؤى الدينية التي يستقونها من المسيحية والصهيونية التي تستمد مادتها من التوراة التي هي جزء من الكتاب المقدّس عند المذهب البروتستنتي الذي يعتنقه المحافظون الجُدُد.

رابعاً: مما يؤسف له أنّ إيران هي الوجه المقابل لأمريكا في استغلال التفتيت الطائفي، وإشاعته، وممارسته، وتعميق جذوره، ويتضح ذلك في العراق حيث تقسيم العراق وحلّ الجيش العراقي فعلان يتعدّيان هدف إزالة نظام صدّام حسين، وهو الهدف الذي برّرت إيران وأعوانها به التعاون مع أمريكا في احتلالها للعراق عام 2003، ويصبّ هذان الفعلان المشار إليهما في خانة التفتيت الطائفي بالدرجة الأولى، والأمر لا يتوقّف على ساحة العراق بل يتعدّاها إلى ساحات أخرى في العالم العربي والإسلامي.

خامساً: يبقى الحصول على البترول هدفاً رئيسياً ومهما في كل هذه المشاريع، وذلك لأنّ الصين والولايات المتحدة ستحتاجان إلى 70% من بترول الشرق الأوسط خلال السنوات العشر القادمة.

سادساً: تهدف هذه المشاريع إلى دمج إسرائيل في المنطقة من جهة، وجعلها تعلب دوراً مركزياً من جهة ثانية، وستكون بمثابة القلب له، لذلك تستهدف هذه المشاريع إلى إيجاد إسرائيل العظمى ذات الاقتصاد القوي وذات الجيش المبني على أحدث التطوّرات التكنولوجية، والتي ستقود الشرق الأوسط الجديد وستشيع الديمقراطية فيه حسب أوهام المشاريع الأمريكية.

سابعاً: إنّ حلم التفتيت الطائفي للمنطقة العربية حلم إسرائيلي قديم، وقد اتضح ذلك في مذكرات بن غوريون منذ قيام إسرائيل وكلامه عن استدراج الطوائف في لبنان إلى التعاون مع إسرائيل، وقد أصبح  الأمر أكثر وضوحاً في الكتاب الذي نشره الصحفي الهندي كارانجيا بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فقد أشار فيه إلى استهداف إسرائيل إقامة دول الطوائف في المنطقة، ويمكن أن يعتبر الدارس لأوضاع المنطقة أنّ عمل إسرائيل واستهدافاتها في التفتيت الطائفي طبيعي ويتسق مع طبيعتها الديموغرافية، ولكنّ من غير الطبيعي أن ترسم دولة عظمى كالولايات المتحدة استراتيجيتها انطلاقاً من هذا الأمر.

الشرق الأوسط بين الجديد و الكبير في موقع سعورس

Lorem Ipsum

اترك رد