فهرس المقال
يلحظ الدارس لأوضاع الحضارة الإسلامية امتيازها بإنجازات لم تنجزها الحضارات الأخرى، ومن هذه الإنجازات:
ويؤكد ذلك استعراض القائمين على كل فن من فنون الحضارة، أو عِلْمٍ من علومها، أو مجال من مجالاتها، فسنجد ذلك الفن أو العلم أو المجال مملوءاً بأسماء من كل الأجناس والأعراق والشعوب كالعرب والفرس والترك والكُرد إلخ…
والسبب في ذلك بسيط ومعروف ويعود إلى:
وقد وردت عدة آيات تبرز المعنى السابق منها قوله تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء،107)، وقوله تعالى أيضاً: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (الأعراف،158) وقوله تعالى عن القرآن الكريم: (إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (يوسف،104).
وقد تحققت العالمية في واقع الحضارة الإسلامية بسبب آخر هو جعل الإسلام التقوى ميزان التفاضل وليس الجنس، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات،13).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى” (رواه أحمد).
وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام نجح في تحقيق العالمية والدمج بين الأعراق والأجناس والشعوب حيث فشلت في ذلك قيادات ومجتمعات أخر.
وأبرزها الاسكندر المقدوني الذي قصد إلى تحقيق العالمية في فتوحاته بتوجيه من أرسطو المعلّم الأول، لذلك أنشأ الاسكندر المقدوني مدناً كالإسكندرونة والإسكندرية من أجل أن تكون مراكز علمية تصدّر حضارة واحدة هي الحضارة الهلّينستية.
وحاول دمج العرقين اليوناني والفارسي في حفل الزواج الكبير الذي أقامه في بابل، وتزوج فيه ابنة كسرى أنوشروان، كما زوّج ضباطه بنات رجال الدولة الفارسية. لكن أحلام الاسكندر المقدوني وأستاذه أرسطو من قصد دمج العرقين اليوناني والفارسي من أجل خلق حضارة عالمية تبخرت بعد وفاته ولم يتحقق منها شيء على أرض الواقع.
وتتضح قيمة حضارتنا العالمية إذا قارنّاها بواقع الحضارة الغربية التي أعلت من شأن الجنس الأبيض وحكمته في كل شؤون الحضارة الغربية ولم تتح للأعراق والشعوب والأجناس أن تأخذ دورها.
ففي أمريكا مثلاً التي قامت على خليط من الشعوب والأجناس والأعراق والتي يفترض أن تكون فرصة الأعراق والأجناس والشعوب الأخرى كبيرة. جاء جميع الرؤساء الأمريكيين من الجنس الأبيض، ومن العرق الأنغلوساكسوني، ومن المذهب البروتستانتي باستثناء رئيسين:
ومن الأمور التي امتازت بها حضارتنا سعة الإعمار الذي طال الإنسان والحيوان والزراعة والتجارة والصناعة والعلوم والفنون والبناء إلخ…. وقد جاء ذلك من أن الدين الإسلامي لم يحتقر الدنيا، ولم يعتبرها دنساً يجب الابتعاد عنه, أو يجب إهماله من أجل الفوز بالآخرة، بل اعتبر إعمارها والتمتع بطيباتها عبادة ومجلبة للأجر كالصلاة والصيام بشرط توجّه القلب إلى الله عند القيام بذلك.
ويوضح ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم محرضاً على الإعمار: “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل” (رواه أحمد).
ويوضحه أيضاً إعطاء المسلم الأجر الأخروي على قضاء الشهوة الخاصة التي اعتبرت دنساً يجب الابتعاد عنه في الأديان الأخرى، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “إن في بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر. قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” (رواه مسلم).
ويوضحه تصريح الرسول بمحبوباته من الدنيا فكانت النساء إحداها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة” (الجامع الصغير).
كما اعتبر الإسلام جلب المنفعة للناس سبباً وطريقاً إلى حب الله تعالى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله” (الجامع الصغير).
ويتصل بالإعمار تحريم الإسلام الرهبانية التي تعني الانقطاع عن الدنيا والالتفات إلى الآخرة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل” (رواه أحمد).
ويتصل بذلك أيضاً تحريم تعذيب الجسد وقتل الطاقات، فقد نقلت الأحاديث أن ثلاثة من الصحابة سألوا إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فتقالّوها
وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: فإني أصلّي الليل أبداً،
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر،
وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً،
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني” (رواه البخاري).
ومن الأمور التي امتازت بها حضارتنا إيجاد الآلية التي تجدد المجتمع، وتصحح الأخطاء، وتقوّم الانحرافات وذلك من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد اعتبر القرآن الكريم أن خيرية الأمة الإسلامية جاءت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران،110).
وقد وضح القرآن الكريم أيضاً أن لعن بني اسرائيل جاء لأنهم قصّروا في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة،78-79).
وقد اعتبر الفقه الإسلامي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإذا لم يقم به أحد من المسلمين فإن ذلك يكون سبباً في إثم الجميع.
وقد حذر الإسلام من نزول العذاب وإصابته الجميع إذا لم يقم المسلمون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم” (رواه أحمد). وقال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال،25).
وقد وضّح الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه أنه لابد للمسلم من أن يرتقي سلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أقل درجاته وهي الإنكار القلبي للمنكر لأن ذلك أضعف الإيمان.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم وأحمد). وفي رواية أخرى: “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”.
تعثرت الميزة الأولى في حضارتنا وهي دمج الأعراق والأجناس والشعوب في العصور الأولى. عندما لجأ الأمويون إلى سياسة التفرقة على أساس قبلي إذ كانوا يقدمون القيسية مرة، واليمانية مرة أخرى، مما أدى إلى بروز الشعوبية التي تخفض من شأن العرب.
ثم زالت تلك الظاهرة بمجيء العباسيين حيث أخذت الأجناس الأخرى غير العربية دوراً كبيراً. وكان العرق الفارسي هو الأول في الحظوة إذ اعتمد العباسيون على تجنيد الفرس في إزالة الدولة الأموية. ثم انفتح الباب لبقية الأعراق، فبرز الأتراك، ثم تبعهم البويهيون والسلاجقة والزنكيون والأكراد إلخ…
وبلغ التمازج بين الأعراق والأجناس والشعوب ذروته في الفترة المملوكية إذ تسلّمت فيها أكثر من عشرين جنسية المناصب الأولى في الدولة. ثم انتقل منصب الإمامة الكبرى وهي الخلافة إلى العرق التركي والتي بقيت فيهم أربعمائة عام من 1516م إلى 1924م.
وبالنسبة للميزتين الأخريين في حضارتنا وهما سعة الإعمار وخلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أضعفهما انتشار التصوف ورسوخه في المجتمع الإسلامي.
فقد دعا التصوف إلى:
وكلها مقولات تتعارض مع الحقائق والمبادئ التي نادى بها الإسلام مما أدى إلى تقليص حجم البناء الحضاري في المجتمع الإسلامي، وإلى ضعف فاعلية تصحيح الانحرافات، وإلى فرز أمراض أخرى أبرزها:
ولكن التصوف انحسر تأثيره في القرن الماضي بسبب العلماء المجددين الذين بيّنوا مخالفته لحقائق الدين الإسلامي من جهة، وبسب الاحتكاك بالحضارة الغربية التي تقوم على مبادئ مناقضة للتصوف من جهة ثانية.
ميزة حضارتنا الإسلامية : ايجاد الآلية التي تجدد المجتمع من موقع سعورس
Lorem Ipsum