النهضة تبدأ من الأمة والفكر القومي العربي مسؤول عن تعثرها

النهضة تبدأ من الأمة والفكر القومي العربي مسؤول عن تعثرها

حتى يكون حواري ذا جدوى مع الكاتب محمود الزايد الذي نشر رداً في صفحة “أفكار” – “الحياة” بتاريخ 15/تشرين الثاني-نوفمبر/1997م على مقال سابق لي، وحتى يعطي أي حوار ثمرته أرى أنه لا بد من التذكير ببعض القواعد التي يجب التزامها، وهي:

1- تحديد مناط الحوار أو الاختلاف ومناقشته والتركيز عليه.

2- مناقشة وجهات النظر المطروحة وعدم تحميل الكاتب أو المقال آراء لم يقلها.

3- الابتعاد عن الأحكام المسبقة التي تأتي من فضاء الكاتب الفكري واعتماد المقولة التي قررها علماؤنا في الماضي وهي: لازم المذهب ليس بلازم في حق كل شخص.

لقد كانت فكرتي التي أبرزتها في المقال السابق هي:

أن وجود الأمة شرط ضروري سابق لأي اختيار تطويري أو تحديثي، وأنه لن تكون هناك جدوى حقيقية من أي تطوير أو تحديث ما لم يكن ذلك مستنداً إلى أمة، وأن ما نعانيه من عدم تحقق نهضتنا إلى الآن يعود إلى عدم النجاح في تكوين الأمة، وأن الفكر القومي العربي الذي قاد المنطقة خلال القرن الماضي لم يستطع أن يكوّن أمة لأسباب موضوعية تتعلق بظروف المنطقة وبطبيعة الفكر القومي.

رد الكاتب الزايد على تعليلي فشل النهضة عند العرب بسبب تعثّر الفكر القومي العربي في تكوين أمة فقال:

ويتناسى أن سؤال النهضة والتحديث مطروح قبل سقوط الامبراطورية العثمانية بأكثر من قرنين من الزمان وقبل بروز التيار القومي في بدايات القرن الحالي وقبل أن يصل إلى السلطة في أوائل الخمسينات…….“.

إن سؤال النهضة آنذاك الذي طرحته ظروف الخلافة العثمانية الداخلية والخارجية سؤال ذو جدوى، وسؤال مشروع، لأنه مبني ومستند إلى أمة موجودة ذات إرادة قادرة على الاختيار والبناء، وقد كان تقليد الغرب خياراً مطروحاً ضمن عدّة خيارات للنهضة، وقد قامت الخلافة العثمانية بتنفيذ جانب من التحديثات، فكان إلغاء الجيش الانكشاري وإحلال جيش نظامي مكانه عام 1826م، وكان هناك خط كلخانة الذي اهتم بحقوق الإنسان والذي صدر عام 1839م، وكان هناك الخط الهمايوني الذي عالج قضية الطوائف والذي صدر عام 1856م، وكان هناك الدستور الذي نظّم العلاقة بين السلطات والذي صدر عام 1876م إلخ…

إذن كانت هناك إجابات على سؤال النهضة في الخلافة العثمانية لأن هناك أمة موجودة بغض النظر عن تقويمنا لهذه الإجابات ومدى صوابيتها وسيرها في الاتجاه الصحيح أم في غيره، لكن سؤال النهضة في حالتنا التي نتحاور حولها بقي دون جواب لأن الفكر القومي العربي الذي قاد المنطقة منذ مطلع القرن الحالي لم يستطع أن يصوغ الأمة العربية التي يجب أن تكون اللبنة الأولى في التحديث والتطوير.

ينقل السيد الزايد تحميلي للفكر القومي العربي ما جرى للخلافة العثمانية، وينقل جانباً من رأيي في وضع الأجناس فيها، مع أنني في حقيقة الأمر لست معنياً بالحديث التفصيلي عن الفكر القومي العربي ودوره في إضعاف الخلافة العثمانية، إنما كنت معنياً بالحديث عن الفكر القومي العربي، واستهدافه تكوين أمة عربية، وتعثّره في ذلك، وتعرضتُ للفكر القومي العربي والخلافة العثمانية بمقدار ما تتطلب معطيات البحث. أما عن تفاعل الأجناس والشعوب واندماجها في الأمة الإسلامية، ومساهمتها في حضارتها، ودفاعها عن كيانها، فهي حقيقة لا يرقى إليها شك على مدار القرون السابقة وهي إحدى خصائص وميزات الأمة الإسلامية، ومما يؤكد الوضع الطبيعي للجنس العربي ضمن الأمة الإسلامية أن العرب لم يطالبوا بأكثر من الإصلاح الإداري على أساس اللامركزية في المؤتمر العربي الذي انعقد في باريس عام 1913م، والذي كان انعقاده في ذروة الأزمة بين العرب والأتراك، تلك الأزمة التي كان بعضها حقيقياً ومعظمها غير حقيقي.

ينفي الكاتب الزايد الحداثة والعلمانية عن الفكر القومي العربي، وهو في معرض نفيه الحداثة والعلمانية يستشهد بآراء ووجهات نظر ميشيل عفلق وجمال عبدالناصر، لكن خطأ الكاتب الزايد جاء من عدم تمييزه بين الفكرة القومية وعواملها وبين التراث الذي هو حقيقة موضوعية خارجية، فجميع المفكرين القوميين المرموقين دون استثناء: كساطع الحصري وزكي الأرسوزي ونديم البيطار وقسطنطين زريق بمن فيهم ميشيل عفلق لم يُدخلوا الدين كعامل من عوامل القومية، لكن مواقفهم تباينت في تحديد العلاقة بين الفكرة القومية والتراث، فبعضهم نادى بفصم العلاقة، وبعضهم نادى بإبقاء العلاقة، وبعضهم أبقى العلاقة غامضة، وبعضهم اتخذ موقفاً عدائياً من التراث، وبعضهم نادى بغربلته إلخ…

أما عبدالناصر فقد مرَّ تفكيره القومي بمراحل متعددة، ولا شك أن المرحلة الأخيرة التي استقر عليها عندما ربط القومية بالاشتراكية الماركسية جعلته في صفٍّ واحد مع المفكرين القوميين الآخرين. 

 يقرر السيد الزايد في جانب من مقاله عداء الإسلاميين لفكرة الأمة العربية لما فيها من محتوى علماني، فالقضية بالنسبة للإسلاميين ليست قضية عداء أو قضية مشاعر وعواطف، إنما هي قضية واقع موضوعي يجب أن يرتكز عليه البحث، فقد استهدف الفكر القومي العربي هدفاً أساسياً هو تشكيل أمة عربية، ولم يستطع ذلك بسبب أن العوامل التي أراد أن يصوغ منها الفكر القومي العربي أمته كانت متشابكة مع كيان أمة أخرى هي الأمة الإسلامية.

        ثم يطرح الزايد سؤالاً على لسان الإسلاميين يقول فيه:

طالما التجربة التاريخية برهنت على نجاحها وقادتنا إلى خلق امبراطورية من الصين وحتى أسبانيا فلماذا لا نعود إليها ولماذا “نخترع” الأمة العربية ولماذا نقلّد الآخرين ونستورد أفكارهم وتجربتهم؟“.

ثم يقرر أن نتيجة ذلك التوجه عند الإسلاميين هو عدم إعمال النظر في سبب انحطاطنا وتخلّفنا، وأسباب فشلنا في النهوض. ليس من شك بأن الإسلاميين يقولون بالبناء على التجربة التاريخية التي عاشتها أمتنا، والعودة إليها والاستفادة مما هو صالح وسليم ومفيد فيها، وليس الإسلاميون وحدهم يقولون بذلك بل كل عاقل يقول بذلك لأنه واقع موضوعي لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال، ولا بد من التعامل معه.

أما تصوّر الكاتب الزايد بأن الإسلاميين يدعون إلى عدم إعمال النظر في واقعنا وتخلّفنا فيردّ عليه عشرات المؤلفات التي ألّفها كتّاب إسلاميون خلال القرن الماضي من أمثال: مصطفى صبري، ورشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس، وعلاّل الفاسي، وشكيب أرسلان، ومالك بن نبي، وحسن البنا، وعبدالقادر عودة إلخ…

 ثم يتساءل السيد الزايد في جانب آخر من مقاله، فيقول:

إذا كان كاتبنا يقرّ بأمة إسلامية يجمعها رابط الدين فقط، فمن الأحرى أن يقر بأمة عربية يجمعها رابط الدين وغيره من العوامل الذاتية والموضوعية والتي لا يسعى للبحث فيها في حالة الأمة الإسلامية“.

القضية ليست قضية إقراري أو إقرار غيري، بل هي قضية واقع موضوعي، فالواقع الموضوعي يشير إلى أن هناك أمة مكوّنة هي الأمة الإسلامية، ولم تقم على عنصر الدين وحده، بل قامت كأيّة أمة أخرى على عدة عناصر منها:

الأرض، والثقافة الواحدة، والعادات الواحدة، والآمال الواحدة، والتاريخ الواحد، والمصالح الواحدة إلخ…

والواقع الموضوعي يشير -أيضاً- إلى أنه ليست هناك أمة عربية، إنما حاول الفكر القومي العربي تشكيلها ولمّا يستطع ذلك، لأن تشكيل أمة لا يأتي نتيجة قرار أو إقرار بل هو نتيجة تفاعلات معقدة وطويلة أو كما قال السيد الزايد نفسه في جانب آخر من مقاله في صدد حديثه عن الأمم الأوروبية بأنها تشكلت: “من خلال صيرورة اقتصادية وفكرية وعلمية وتكنولوجية وسياسية واجتماعية“.

ثم يطرح الكاتب الزايد تصوراً جدلياً فيقول:

سنمضي جدلاً مع المنطق السابق ولنفرض تحقق حلمنا وبقيت الدولة العثمانية أو عدنا للوراء وأعدنا تشكيلها أو بناء أمة إسلامية من الدول التي يؤمن سكانها بالدين الإسلامي، ألن نجد أنفسنا ومعنا السيد التوبة وكل المؤمنين، كما وجد دعاة التحديث في الدولة العثمانية ومن جاء بعدهم، أمام السؤال نفسه الذي ما يزال مطروحاً وهو “ما العمل للحاق بالعالم المتقدم؟ وماذا عن شكل النظام السياسي والاقتصادي وماذا عن علاقاتنا بالعالم من حولنا؟”.

لو بقيت الخلافة العثمانية، وبقيت الأمة الإسلامية موجودة بكل كيانها، لكان السؤال عن التحديث والتطوير واللحاق بالعالم المتقدم سؤالاً ذا جدوى، وقد كان مطروحاً في الخلافة العثمانية كما وضحت في جانب من مقالي، وكان الوصول أكيداً إلى جواب مناسب، وفي تقديري لن تكون النتيجة فقط اللحاق بالعالم المتقدم، بل المساهمة في بنائه حسب معطياتنا الحضارية، السبب في ذلك كله أن هناك أمّة مكوّنة، فالتحديث والتطوير يجب أن يكون مستنداً إلى كيان الأمة.

وقد تعرّض الكاتب الزايد في جانب آخر من مقاله إلى الإسلاميين وإلى نظرتهم إلى التاريخ الحديث، وأشار إلى قولهم بأن الانحراف الذي حدث بعد عصر الخلفاء الراشدين هو السبب في الانحطاط وأن التصحيح يكون بالعودة إلى الطريق القويم ونبذ البدع والشوائب ومنها الأفكار العلمانية والقومية .لم أتطرق في مقالي السابق إلى أسباب ضعف أمتنا، لأني اجتهدت في محاورة الكاتب الزايد في أصل مقاله وهو الدعوة إلى التحديث والعلمانية، وحاولت أن أبيّن سبب عدم تحقق ونجاح ذلك التحديث والعلمانية بعدم وجود الأمة التي يجب أن تكون حاضنة لهذا التحديث، وحاولت أن أستبطن الفكر القومي العربي لأَصِل إلى السبب الحقيقي في عدم تشكّل الأمة، ولنضع أيدينا على جوهر الأزمة التي نعيشها.

أؤكد في النهاية على أن جوهر أزمتنا هو عدم تكوين الأمة، وأن الفكر القومي العربي أحد المسؤولين عن إدخالنا في هذه الأزمة.

اترك رد