الناصرية هل ما زالت مشروعا حيا؟
في البداية وقبل الإجابة على السؤال المطروح للسجال لابد من التقرير بأنّ مشروع الناصرية كان فاشلاً وأبرز دليل على ذلك احتلال إسرائيل لأراض شاسعة من ثلاث دول عربية عام 1967م وهي: سيناء من مصر، والضفة الغربية من الأردن، والجولان من سورية. وهل هناك فشل أكبر للمشروع الناصري من جعله إسرائيل تتوسع على ثلاث جبهات وهو الذي قام بالأصل على دعوى إزالة إسرائيل من الوجود؟
والآن بعد تدوين الحقيقة السابقة أرى أنه حتى يكون الجواب على سؤال الحوار دقيقاً يجب استعراض الركائز الفكرية التي قام عليها المشروع الناصري ودراستها لأنّ حيوية أي مشروع وعدمها مرتبط بصحة الركائز الفكرية التي يقوم عليها وسلامتها.
قام المشروع الناصري على ركيزتين، هما: القومية العربية، والاشتراكية. أما القومية العربية فقد حملت جرثومة مرضها معها منذ ولادتها على يد ساطع الحصري الذي انحاز إلى النظرية الألمانية في القومية والتي تقوم على عنصرين هما: اللغة والتاريخ. فقد اعتبر ساطع الحصري: اللغة العربية روح القومية، والتاريخ ذاكرتها وشعورها ولم يعتبر الدين بحال من الأحوال عنصراً من عناصر بناء القومية، بل كان علماني التوجه. وجاء جمال عبد الناصر وسار على نهج ساطع الحصري في الأمرين: القومي والعلماني.
والآن طالما أنّ جمال عبد الناصر جرّد القومية العربية من الدين يتساءل الباحث في المشروع الناصري عدة أسئلة، منها: كيف يمكن أن نفهم واقع الأمة العربية من المحيط إلى الخليج الفهم الصحيح إذا جرّدناها من الدين الإسلامي؟ كيف يمكن أن نقودها القيادة السليمة إذا تجاهلنا دور الدين الإسلامي في بنائها؟ كيف يمكن أن نعالج أمراضها المعالجة الصائبة إذا أغفلنا قدرة الدين الإسلامي على استنهاضها وإبرائها؟ كيف يمكن أن ننجح في إقامة وحدتها حاضراً إذا تعامينا عن دور الدين الإسلامي في إقامة وحدتها ماضياً؟ كيف يمكن أن ننجح في بناء شخصيتها الحضارية الفاعلة إذا وقفنا موقفاً سلبياً من قيم الإسلام الدينية ومبادئه ومرتكزاته؟
وحتى على صعيد عنصري القومية اللذين تقوم عليهما القومية العربية في نظر ساطع الحصري وهما: اللغة العربية والتاريخ، فلا يمكن أن نفهمهما الفهم الصحيح إلا بالإسلام، فالقرآن الكريم هو الذي حفظ اللغة العربية من الضياع والاندثار كما حدث للغات ولهجات أخرى كثيرة، فقد ابتكر المسلمون التشكيل والتنقيط وعلوم النحو والصرف وعلوم البديع والبيان ومعاجم اللغة من أجل ضبط كلمات القرآن الكريم الضبط الصحيح وفهم كلماته وآياته وسوره الفهم السليم وحفظه من كل تحريف أو ضياع.
والتاريخ العربي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، وهل التاريخ إلا المعارك والفتوحات والانتصارات والهزائم والعلماء والعلوم والطوائف والفرق والعمران والثقافة والفنون إلخ…؟ وهل يمكن أن نؤرخ لأية مفردة من المفردات السابقة بدون الإسلام؟ وهل يمكن أن نفهم نشوءها وتطورها إلا بالإسلام؟ أظن أنه لا يختلف في ذلك عاقلان.
أما الركيزة الثانية في المشروع الناصري فقد كانت الاشتراكية، وقد أخذت كل مقولاتها من الاشتراكية العلمية الماركسية، لذلك سادت في هذه المرحلة شعارات: حتميّة الصراع الطبقي، وتأجيج حقد البروليتاريا على البرجوازيين، وفهم التاريخ من خلال التطور المادي لوسائل الإنتاج، وضرورة إقامة ديكتاتورية البروليتاريا، واعتماد مقولة: إنّ المادة أساس الكون وإنّ الفكر انعكاس للمادة، والأخذ بالديالكتيك المادي والجدلي في فهم حركة الكون والمجتمعات إلخ…
وقد اعتُبر الدين الإسلامي في هذه المرحلة أصل التخلف وأساس وجود الرجعية، لذلك اتجهت الأقلام إلى محاربته، والتشكيك في أصوله وقيمه ومبادئه، والطعن فيها بحجة أنها قيم رجعية تحول دون التقدم، ويستغلها البرجوازيون أصحاب الثروات الكبيرة، وقد فتح جمال عبد الناصر كل صحفه ومجلاّته وإذاعاته وأجهزته للمعادين للدين لكي ينفثوا أحقادهم فيها، وبالذات للشيوعيين الذين دخلوا الاتحاد الاشتراكي وشكّلوا بعضاً من قياداته الفاعلة والمؤثرة، وقد كانت النتيجة توهين قيم الدين الفاعلة ومبادئه وأخلاقه واهتزازها في نفوس قطاع كبير من أبناء الأمة وهو ما كان سبباً رئيساً في خسارتنا لحرب حزيران عام 1967.
الآن وبعد هذا العرض الموجز لركيزتي المشروع الناصري: القومية العربية والاشتراكية، وتوضيح عدم سلامتهما المنهجية، وتبيان دورهما في إضعاف الأمة وتوهين قيمها ومبادئها ومثلها واحتلال أرضها، هل يمكن القول بعد كل تلك السلبيات التي أشرنا إليها بأنّ الناصرية مازالت مشروعاً حياً؟ لا أظن ذلك.