نظرات جديدة في تاريخ حضارتنا نقد كتاب الفكر العلمي العربي

الكـتاب      : الفكر العلمي العربي: نشأته وتطوره.

المؤلـف       : جورج صليبا.

الناشـر : مركز الدراسات المسيحية الإسلامية – جامعة البلمند.

تاريخ النشر: 1998م.

        في البداية لابد من الإشارة إلى أنّ الكتاب يرسي حقائق جديدة في منتهى الأهمية بالنسبة لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية وعلومها، وبالقطع فإنه لا يرسي هذه الحقائق الجديدة إلا بعد أن يزعزع حقائق أخرى، كانت تُدرّس على أنها حقائق وتبيّن أنها ليست بحقائق ومما يزيد في أهمية الكتاب دعوته لمنهجية جديدة في النظر إلى تاريخ حضارتنا العربية الإسلامية.

        حمل الفصل الأول عنوان “نشأة العلوم العربية” وناقش الدكتور صليبا في البداية الروايات التي تفسر ذلك، ورأى أنها تنحصر في تفسيرين أطلق عليهما اسمي “نظرية الاحتكاك” و”نظرية الجيوب”، وعنى بالأولى النظرية التي تقول بأنّ نقل العلوم إلى العربية من اليونانية والفارسية والسنسكريتية والسريانية وغيرها جاء نتيجة لاحتكاك هذه الحضارة بالحضارات الأخرى التي كانت قد سبقتها إلى الرقعة الجغرافية نفسها. وعنى بالثانية النظرية التي تقول بأنّ الحضارة الهلّينية كانت باقية مستمرة في المناطق التي أتى عليها الإسلام بشكل جيوب حضارية والتي كانت هي بدورها حلقة الوصل بين الحضارة الهلّينية والحضارة الإسلامية، ويمثلون على هذه الجيوب بذكر مدينتين اثنتين هما: مدينة حرّان ومدينة جنديسابور.

        ثم نقد الدكتور جورج صليبا هاتين النظريتين ورأى أنّ مجرد الاحتكاك لا يكفي وحده لإنتاج أعمال علمية في غاية الصعوبة ولا إلى نقلها من لغة إلى أخرى ما لم يكن هناك هذا التكامل الفكري. ذلك أنّ عملية النقل تتطلب في حد ذاتها فهم المصادر المنقولة فهماً دقيقاً. ولا يُصار إلى فهم هذه المصادر ما لم يكن هناك تكوين علمي معيّن ومستوى من المقدرة العلمية تمكن أبناء الحضارة الآخذة من فهم المصادر الواردة في الحضارة الثانية لأجل معرفة قيمتها العلمية أولاً، وانتقائها للترجمة ثانياً، وإدخالها في إطار البيئة العلمية الجديدة ثالثاً. وأكد على عدم جدوى نظرية الاحتكاك حيث نرى جميع الدول المسماة بالعالم الثالث على احتكاك دائم بدول وحضارات العالم الأول، ولكننا لا نرى نتيجة لهذا الاحتكاك تؤدي إلى قفزة نوعية كمثل القفزة التي تمت خلال الحقبة العباسية الأولى، وذلك لأنّ مثل هذه القفزة تحتاج إلى تربية علمية، ومراكز علمية، ودوافع وإغراءات اقتصادية إلخ…

        ثم نقد نظرية الجيوب وأشار إلى أننا لو سلمنا بهذه النظرية لكان علينا أن نتقصّى آثار هذه الجيوب الحضارية لنتحقق من كيفية انتقال هذه العلوم بواسطتها من الحضارة الهلّينية مثلاً إلى الحضارة العربية. وعند السؤال عن ذلك لا نجد أحداً يمكن أن يشير إلى أثر واحد أتانا من هذه الجيوب ولا نرى أنّ المصادر اللاحقة حفظت لنا حتى ذكر أثر من هذا النوع. ثم بيّن الدكتور صليبا أنّ نظرية الجيوب ذكرت قضية انتقال الفلسفة اليونانية إلى الحضارة العربية كدليل على صحتها، وقد نقل في هذا الصدد رواية الفارابي في كتاب ابن أبي أُصيبعة “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” عن ذلك الانتقال، لكنّ التدقيق في تلك الرواية يجعلنا لا نعتد بها كمرجع تاريخي حول حقيقة نقل العلوم الفلسفية من اليونانية إلى العربية لأنها رواية أسطورية.

        ثم انتقل الدكتور صليبا إلى تعليل نشأة العلوم العربية بعد أن فنّد النظريتين السابقتين في نشأتهما وهما: نظريتا الاحتكاك والجيوب، واعتبر أنّ الداعي إلى نشأة العلوم هو ترجمة “ديوان الأموال” حيث تتطلب وجوه الأموال عمليات حسابية يحتاج فيها أحياناً إلى إعادة مسح العقارات، وذلك يحتاج إلى علم المساحة ولو بشكل بسيط، وتوقيت دفع الخراج حسب السنة الشمسية المغايرة للسنة القمرية وما يحتاج ذلك إلى قواعد فلكية بسيطة، وإعادة تقسيط المدفوعات بخاصة إذا كثر الورثة، وقد أدى ذلك محمد بن موسى الخوارزمي لاحقاً إلى كتابة كتاب في “الجبر والمقابلة” لتسهيل تلك العمليات، والذي أدى إلى خلق علم الجبر الذي لم يكن يعرفه اليونانيون بالشكل الذي أورده الخوارزمي، وقد اعتمد الدكتور صليبا في هذا التعليل على رواية أوردها ابن النديم في الفهرست.

        إذن رأى الدكتور صليبا أنّ هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وراء نشأة العلوم العربية كما أثرت هذه العلوم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي بعد ذلك.

        حمل الفصل الثاني من كتاب الدكتور جميل صليبا عنوان “تطور علم الفلك العربي”، وقد أعاد الدكتور صليبا في هذا الفصل نشأة علم الفلك الإسلامي إلى عملية الخلق الجديدة التي قام بها علماء عاصروا المأمون من أمثال سند بن علي الخوارزمي ويحيى بن منصور كانوا قد بدأوا  بإعادة النظر في المعطيات الفلكية اليونانية كمثل قياس طول الدرجة من محيط الأرض، وحركة الكواكب الثابتة، ومقدار ميل فلك البروج عن فلك معدل النهار إلخ… وقد سيطرت الاتجاهات النقدية في علم الفلك الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري فصنف ابن الهيثم (المتوفى حوالي 1040م) كتاباً سمّاه “الشكوك على بطليموس”، وفي هذه الفترة بالذات كتب فلكي أندلسي آخر ما زال مجهول الهوية كتاباً آخر سماه “الاستدراك على بطليموس”، كذلك كتب أبو عبيد الجوزجاني (حوالي 1070م) تلميذ ابن سينا كتاباً سماه “تركيب الأفلاك” حيث حاول أن يرد فيه على الأخطاء التي ارتكبها بطليموس، كذلك ألّف البيروني (المتوفى حوالي 1050م) كتاباً سماه “كتاب إبطال البهتان بإيراد البرهان” يردّ فيه على هيئة بطليموس لعروض الكواكب. وقد أدى كل هذا الاهتمام بقواعد علم الفلك، وعملية إعادة النظر بقواعد الفلك اليوناني إلى التمييز بين علم النجوم وعلم الهيئة ونشأة علم الميقات الذي اهتم بمسائل رؤية الهلال وتمييز أوقات الصلاة وحساب اتجاه القبلة في الأماكن المختلفة.

        وقد حمل الفصل الثالث عنوان “معالم الأصالة في علم الفلك العربي”، وقد بيّن الدكتور صليبا معنى كلمة الأصالة بأنّ المقصود منها هو خلق معطيات علمية تدفع العلم إلى أمام، وقد وضح الدكتور صليبا أنّ علم الفلك العربي لم يأت بالجديد فقط بل استطاع أن يكشف عن الخطأ وأن يرشد الآخرين إلى ذلك. كما أنه أعاد صياغة أساليب علمية جديدة غايتها الأساسية تحاشي الخطأ بالدرجة الأولى.

        وقد فصّل معالم الأصالة في علم الفلك العربي فأورد بعض الحقائق في المجال الرصدي وفي المجال النظري ثم بيّن أنّ المسلمين هم الذين ميّزوا لأول مرة بين علم الفلك الرياضي وعلم التنجيم الذي ذمه الشرع الإسلامي، ومنذ أواسط القرن الثالث الهجري بدأت تظهر كتب عربية تسمى كتب الهيئة تعنى بعلم الفلك فقط من دون التعرض لعلم التنجيم المذموم. والجدير بالذكر هنا أنّ لفظ “الهيئة” هذا، وهو الاسم الذي اختص بعلم الفلك دون غيره، لم يكن له مقابل في اليونانية.

        وأبرز الدكتور صليبا معالم أخرى لأصالة علم الفلك العربي منها إعادة التركيز على الأسس العلمية التي تساهل علم الفلك اليوناني فيها، ومنها إعادة صياغة الرياضيات كلغة للعلم كما فعله شمس الدين الخفري، والعلم الذي وصلت زبدة إنتاجه إلى علماء النهضة الأوروبيين ليستفيدوا منه بدورهم في إقامة النظريات الرياضية، وفي تحقيق الثوابت الفلكية. وليستفيدوا بشكل خاص في إعادة الربط بين الظواهر الطبيعية والأسس العلمية التي يفترض أن تفسّر هذه الظواهر كما تفعل العلوم الحديثة.

        وقد حمل الفصل الرابع عنوان “مرحالية الفكر العلمي العربي” وذكر الدكتور جورج صليبا المرحالية الشائعة التي تستخدم عادة في تقسيم تاريخ الفكر العربي العام وبالأخص تاريخ الفكر العلمي العربي ويمكن تلخيصها على الشكل التالي: الفترة السابقة على الإسلام لم يكن فيها علم يذكر، يلي ذلك عصر أخذ فيه العرب علومهم عن الشعوب القديمة عن طريق الترجمة، فسمي ذلك العصر بعصر الترجمة، وكان في حدود القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. بعده جاء عصر الإبداع الفكري العربي ويُحدّد امتداده عادة من أواخر القرن التاسع حتى أواخر القرن الحادي عشر. وقد يسمى هذا الأخير بالعصر الذهبي ليأتي بعده عصر انحطاط شمل جميع نواحي الفكر العربي المعروف وحدّد امتداده بالعصور التالية للقرن الثاني عشر.

        وقد أشار الدكتور صليبا إلى أنّ هذا التسلسل لتاريخ الفكر العربي من إنتاج الفكر الاستشراقي الأوروبي الذي يعتمد المركزية الأوروبية كمحور للتاريخ البشري، ولكنها أصبحت هي المنهجية الشائعة أخذ بها معظم العاملين في تراث الفكر العربي من العرب أنفسهم، وتفاخروا بإقامة الدليل على الدور العظيم الذي خدم به العرب الحضارات الأخرى من خلال حفاظهم على التراث اليوناني.

        ثم نقد الدكتور صليبا المرحالية السابقة وأشار إلى أنّ عصر الترجمة لم يكن عصر نقل عن اليونانية فقط، بل كان عصر هضم وتمحيص ونقد وإبداع أدى إلى خلق حقول جديدة مثل حقلي الجبر والمثلثات وغيرهما.

        ثم نقد عصر الانحطاط وبيّن الدكتور صليبا أنّ عصر العلوم الذهبي بالنسبة إلى علم الفلك إنما جاء في العصر الذي يطلقون عليه “عصر الانحطاط”، وبلغ أوجه في القرن السادس عشر الميلادي، وقد فصّل ذلك في مقدمته كتابه عن علم الفلك العربي، وهو يدعو إلى رفض المنهجيّة الشائعة وليس فقط من أجل تحرير النصوص من الأحكام المسبقة بل من أجل تحرير أذهاننا من الأحكام المسبقة عليها وإعطاء النص المجال ليتكلم على نفسه وبنفسه.

        أما عصر الانحطاط فهو في رأي الدكتور صليبا لم يأت نتيجة ثورة الغزالي على الفلاسفة كما هو مشهور، لأنّ الشواهد من مجالات العلوم تدحض ذلك، بل جاء على الأرجح نتيجة للقوة الاقتصادية التي حققتها أوروبا بعد اكتشاف أمريكا على يدي كولومبوس، فمنذ ذلك الاكتشاف الذي أورث أوروبا الأطنان المطننة من الذهب والفضة التي وردت إليها من العالم الجديد والعالم الإسلامي يفتقر إلى هذه الموارد شيئاً بعد شيء. فمنذ ذلك الحين والعالم الإسلامي كأنه في حالة سباق مع أوروبا، لم يلحق بها حتى الآن، والفجوة بين الاثنين تتسع يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة. ليس هناك عصر انحطاط بل كان هناك خسارة سبق بين الحضارتين.

الخلاصة

يرى الدكتور جورج صليبا أنّ العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كانت وراء نشأة العلوم العربية وليست الترجمة أو المدن التي حفظت التراث الهلّيني كحرّان أو جنديسابور، ويرى أيضاً أنّ العلوم العربية كانت تحمل طابع الأصالة والإبداع بالإضافة إلى هضم التراث السابق اليوناني والهندي وغيره، ولم يكن كلام الدكتور صليبا نظرياً في هذا المجال بل قدم أدلة تفصيلية تدعم وجهة نظره من خلال علم الفلك العربي الذي هو مجال اختصاصه، وينقد الدكتور صليبا التقسيم الشائع للفكر العربي إلى عصور نشأة وازدهار وانحطاط، ويرى أنّ العصر الذهبي بالنسبة إلى علم الفلك العربي هو العصر الذي يطلقون عليه عصر الانحطاط، وهو يدعو – في النهاية – إلى منهجية جديدة لدراسة تاريخ الفكر العربي بشكل عام والفكر العلمي العربي بشكل خاص تقوم على دراسة تطور العلوم ذاتها وليس على الأحكام المسبقة التي وضعها المستشرقون والتي شاعت بين الدارسين العرب، وستؤدي هذه المنهجية الجديدة إلى تبيّن المسار الحقيقي للعلوم العربية الإسلامية وإرساء مرحالية جديدة للفكر العربي الإسلامي.  

 

اترك رد