يحتل الغيب مساحة واسعة في الدين الإسلامي، فهو يشمل الإيمان بالله والملائكة والبعث واليوم الآخر والجنة والنار والجن الخ… وقد امتدح القرآن الكريم المؤمنين بالغيب فقال سبحانه وتعالى:
(ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (البقرة،1-4).
وقد كانت قضية البعث أبرز القضايا الغيبية التي أثار المشركون النقاش والتساؤل حولها، فتساءلوا مستغربين:
فرد القرآن عليهم إن الله الذي خلق الأجساد أول مرة قادر على أن يبعثها مرة ثانية، وقد تردد هذا البرهان أكثر من مرة في سور القرآن الكريم فقال سبحانه وتعالى:
(وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون . أو آباؤنا الأولون . قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) (الواقعة،47-50).
ثم ضرب الله سبحانه وتعالى لهم المثل من خلقهم الأول فقال سبحانه وتعالى:
(نحن خلقناكم فلولا تصدقون . أفرأيتم ما تمنون . أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون . نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون) (الواقعة،57-62).
وقال سبحانه وتعالى:
(وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً . أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفوراً) (الإسراء،98-99).
وذكر القرآن قصة حوار بين أبي بن خلف والرسول صلى الله عليه وسلم حول البعث فبعد أن جاء بعظم رميم وهو يفتته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أنّ الله يبعث هذا؟
قال صلى الله عليه وسلم:
“نعم، يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار”.
وقد حكى القرآن تلك القصة، فقال سبحانه وتعالى:
(وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ . قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) (يس،78-79).
وقد بين القرآن الكريم أنّ الخلق الثاني أهون من الخلق الأول كما هو معلوم من البداهة، قال سبحانه وتعالى:
(وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) (الروم،27).
وقد وضح القرآن الكريم أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وهي آيات مبثوثة بين أيدي الناس وظهرانيهم، فهذا يؤكد أن الذي يخلق الأكبر يمكن أن يخلق الأصغر قال سبحانه وتعالى:
(لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (غافر،57).
وبعد أن انتشر المسلمون في الأرض واختلطوا بالأمم والشعوب الأخرى برزت مشكلتان من قضايا الغيب في كتب العقائد: مشكلة حشر الأجساد ومشكلة صفات الله سبحانه وتعالى.
فقد أنكر الفلاسفة حشر الأجساد، وهذه إحدى القضايا التي كفّر الغزالي الفلاسفة بها، بالإضافة إلى تكفيره لهم على قولهم بقدم العالم، أما القضية الأخرى التي برزت من قضايا الغيب ولم تكن مثارة عند نزول الإسلام وهي قضية صفات الله: مثل قضية كلام الله سبحانه وتعالى وعلمه ونزوله واستوائه الخ….
وقد جاءت هذه المشكلة من تداخل الفلسفة مع أمور العقائد، وإثارة أسئلة لم يعرفها المسلمون عند نزول الإسلام من مثل التساؤل:
وقد تولّدت عن جواب السؤال السابق ثلاثة مواقف:
وقد أصبح الجواب الذي احتذاه أولئك الأئمة في مجال الصفات هو جواب مالك بن أنس عندما سئل عن الآية:
(الرحمن على العرش استوى) (طه،5).
فأجاب: “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه”.
وقد استشهد ابن تيمية على وجهة نظره بأن التعطيل والتأويل اللذين ارتبطا بمشكلة صفات الله جاءا نتيجة تداخل الفلسفة مع أمور العقائد الدينية، ودلّل على ذلك بأن الصحابة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أسئلة عن عدة قضايا منها:
الأهلة، والمحيض، والخمر، والساعة، والروح، واليتامى، وذي القرنين، والأنفال الخ. . .
ولم يسألوه عن أية صفات من صفات الله مما يؤكد أنها لم تكن موضع إشكال عندهم، وأن الإشكال طارئ نتيجة أمور جديدة، وهي تداخل الأمور الفلسفية مع أمور العقائد الدينية كما ذكرنا.
وربما كانت إشكالية الغيب في عصرنا الحاضر أكبر نتيجة:
وقد بلورت الحضارة الغربية موقفها المعادي للغيوب الدينية بشكل عام على ضوء معاداتها للدين بشكل خاص، والذي جاء نتيجة التصادم بين رجال الكنيسة ورجال العلم في القرون الوسطى، وقد أثر موقف الحضارة الغربية من الغيوب في بيئتنا الإسلامية على امتداد القرنين الماضيين، ولم يقتصر على الغيبين: صفات الله واليوم الآخر كما كان في العصور السابقة، بل تعداه ليشمل أي حديث غيبي عن معجزة أو واقعة أو خلق الخ…
وقد احتاج العلماء من أجل التوفيق بين الحضارتين: الغربية والإسلامية إلى إعمال مبدأ التأويل، وقد ظهر هذا واضحاً فيما كتبه محمد عبده في تفسيير المنار، ومن تأويلاته ما يلي:
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ . ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ . وأرسل عليهم طيراً أبابيل . ترميهم بحجارة من سجيل) (الفيل،1-4).
وقد سار على منهج محمد عبده كثير من الكتاب الذين تناولوا كثيراً من الأمور الدينية والتاريخية، ومن أبرزهم محمد حسين هيكل في كتاب “حياة محمد” حيث أوّل كثيراً من الأمور الغيبية التي وردت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لتتفق مع معطيات الحضارة الغربية، ولكن السؤال الذي يرد في النهاية:
الحقيقة إنها لم تستطع، لأنّ قيام الحضارة الغربية على عالم الشهادة وحده من جهة، وإنكارها عالم الغيب من جهة ثانية موقف خاطئ جاء نتيجة ظروف خاصة مرت بها الحضارة الغربية وهي ظروف الصراع بين رجال الكنيسة ورجال العلم كما رأينا، وهذا الموقف لا يقتضي مسايرة الحضارة الغربية في خطئها، والتوجه إلى تأويل الغيوب في حضارتنا الإسلامية، بل يقتضي تعديل موقف الحضارة الغربية من قضية الغيوب، وهو ما بدأ بعض علمائهم كما فعل الكسيس كاريل عندما أقر بالمشكلة في كتاب “الإنسان ذلك المجهول“، وعندما رسم خطوات للعلاج بغض النظر عن حجم هذه الخطوات، المهم أنه بدأ التوجه الصحيح …