العولمة: الحقيقة والأبعاد
يجد الباحث عن العولمة كثيراً من التهويل والتوهيم في الكتابة عنها فيتم تصويرها على أنها قدر نافذ، وأنه لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها، وأن علينا اللحاق بقطارها وإلاّ خرجنا عن نطاق التاريخ، وأنها ستدمر الحدود والدول إلخ….
لذلك من أولى واجبات الباحث وعي تلك التهويلات والتوهيمات، وفرزها وإبعادها عن جوهر الموضوع، ومن نافلة القول التأكيد بأن العولمة ككل ظاهرة اجتماعية حياتية لا بد أن تكون متصلة بما قبلها وجسراً لما بعدها، ولا يمكن أن تكون منقطعة الجذور عما قبلها وعما بعدها،
ولا بد من أن تحوي عناصر قديمة وأخرى جديدة، وفي الغالب فيها أمور نافعة وأخرى غير نافعة، هذا ما يمكن أن يضعه الباحث في اعتباره عند البحث في أية ظاهرة اجتماعية حياتية كونية، وهذا ما سنجد تأكيده عند تفصيلنا الحديث عن هذه الظاهرة الجديدة: العولمة.
لقد أصبح مصطلح العولمة متداولاً منذ بداية التسعينات، وأصبح علماً على الفترة الجديدة التي بدأت بتدمير جدار برلين عام 1989م وسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه، وانتهت بتغلّب النظام الرأسمالي على النظام الشيوعي، وانفراد أمريكا بقيادة العالم.
لذلك فإن العولمة تتكون من العناصر الرئيسية التالية:
إن تغلّب الرأسمالية على الشيوعية جعلها تعمم مبادئها على كل المجتمعات الأخرى، فأصبحت قيم السوق، والتجارة الحرة، والانفتاح الاقتصادي، والتبادل التجاري، وانتقال السلع ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات هي القيم الرائجة، وتقود ذلك أمريكا وتفرضها عن طريق مؤسسات البنك الدولي، ومؤسسة النقد الدولي، وغيرها من المؤسسات العالمية التابعة للأمم المتحدة، وعن طريق الاتفاقات العالمية التي تقرها تلك المؤسسات كاتفاقية الجات وغيرها.
تفردت أمريكا بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكيك منظومته الدولية، ومن الجدير بالملاحظة أنه لم تبلغ إمبراطورية في التاريخ بقوّة أمريكا العسكرية والاقتصادية، مما يجعل هذا التفرد خطيراً على الآخرين في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية إلخ…
مرّت البشرية بعدّة ثورات علمية منها ثورة البخار والكهرباء والذرّة وكان آخرها الثورة العلمية والتكنولوجية والخاصة بالتطورات المدهشة في عالم الكمبيوتر، وتوصل الكمبيوتر الحالي إلى إجراء أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة وهو الأمر الذي كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق.
أما المجال الآخر من هذه الثورة فهو التطورات المثيرة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تتيح للأفراد والدول والمجتمعات للارتباط بعدد لا يحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكابلات الضوئية والفاكسات ومحطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية الأرضية والفضائية التي تبث برامجها المختلفة عبر حوالي 2000 مركبة فضائية.
بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت التي تربط العالم بتكاليف أقل وبوضوح أكثر على مدار الساعة، لقد تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أهم مصدر من مصادر الثروة أو قوة من القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية الكاسحة في عالم اليوم.
ما هي أخطار العولمة وكيف نواجهها؟
ستؤدي العولمة إلى تشغيل خمس المجتمع وستستغني عن الأربع الأخماس الآخرين نتيجة التقنيات الجديدة المرتبطة بالكمبيوتر فخمس قوة العمل كافية لإنتاج جميع السلع ، وسيدفع ذلك بأربعة أخماس المجتمع إلى حافة الفقر والجوع ، ومن مخاطر العولمة أيضاً قضاؤها على حلم مجتمع الرفاه ، وقضاؤها على الطبقة الوسطى التي هي الأصل في إحداث الاستقرار الاجتماعي ، وفي إحداث النهضة والتطور الاجتماعي ، ومن مخاطرها أيضاً دفعها بفئات اجتماعية متعددة إلى حافة الفقر والتهميش ، وتشير الأرقام إلى أن 358 مليارديراً في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان العالم أي ما يزيد قليلاً عن نصف سكان العالم . وأن هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدخرات العالمية. وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلّة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين يعيش أغلبية السكان على الهامش.
ويمكن أن نمثل بالولايات المتحدة أبرز قلاع الرأسمالية، فالجريمة اتخذت هناك أبعاداً بحيث صارت وباء واسع الانتشار. ففي ولاية كاليفورنيا – التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية – فاق الإنفاق على السجون المجموع الكلي لميزانية التعليم. وهناك 28 مليون مواطن أمريكي، أي ما يزيد على عشر السكان، قد حصّنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلّحين ضعف ما تنفق الدولة على الشرطة.
ونلاحظ في هذا الصدد أن ظاهرة فتح الأبواب على مصراعيها أمام التجارة الحرة باسم حرية السوق قدر رافقتها نسبة مهولة من ازدياد الجريمة، فقد ارتفع حجم المبيعات في السوق العالمية لمادة الهيرويين إلى عشرين ضعفاً خلال العقدين الماضيين، أما المتاجرة بالكوكايين فقد ازدادت خمسين مرة.
يمكن أن نواجه خطر العولمة بتحقيق السوق العربية المشتركة وغيرها من المؤسسات العربية والإسلامية المنبثقة عن الجامعة العربية ومؤتمر القمة الإسلامي هذا على المستوى الخارجي، أما على المستوى الداخلي لكل دولة فيمكن أن نواجهه بزيادة التكافل الاجتماعي الذي ترعاه الدولة، وزيادة الرعاية الاجتماعية، والتأمينات الاجتماعية، وتقوية المجتمع المدني، وتعزيز المشاعر الدينية.
الأمركة هي الخطر الثاني ، ومما يساعد على الأمركة انفراد الولايات المتحدة بالعالم ، واعتبارها القطب الواحد الذي انتهت إليه الأوضاع السياسية في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، والأمركة تعني انتشار الأزياء والموسيقى والأكل الأمريكي ، وتكون نتيجة ذلك إلغاء الهوية الثقافية ، ولكن أخطر ما في الأمركة نسبية الحقيقة التي تقوم عليها ، وهي التي تتصادم تصادماً مباشراً مع ثوابت الدين الإسلامي المستمدة من النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة ، لذلك نجد أن قوى الأمركة تدعم كل من يروج لنسبية الحقيقة ، فقد امتدح بللترو وكيل وزارة الخارجية الأسبق ثلاثة من الكتّاب العرب، ودعا إلى ترويج كتاباتهم واعتمادها وهم : محمد شحرور من سورية ، ومحمد سعيد العشماوي من مصر ، ومحمد أركون من الجزائر ، وإنّ ما يجمع هؤلاء الثلاثة هو إيمانهم بنسبية الحقيقة ، وتفسيرهم النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يتناول ثوابت الدين الإسلامي : العقائد ، والحدود ، والميراث ، وتشريعات الأسرة : كالزواج ، والطلاق إلخ… على أنه انعكاس لبيئة العرب الجاهلية ، وربطهم بينه وبين الواقع الجاهلي ، ولذلك فنحن لسنا ملزمين به وعلينا أن نفسر هذه النصوص على ضوء واقعنا الجديد ، ونعطيها مضموناً آخر وبعداً جديداً ، أي بمعنى ثبوت النص وتغيّر المعنى ، وبالإضافة إلى ذلك فإن كثيراً من المعارك التي دارت أخيراً هي تجسيد للصراع بين نسبية الحقيقة التي تقوم عليها العولمة وبين ثوابت ديننا الإسلامي ، ومن أبرز هذه المعارك ما ذكره نصر حامد أبو زيد عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة التي تتناول أموراً عقائدية : كالكرسي والعرش والميزان والصراط والملائكة والجن والشياطين والسحر والحسد إلخ… فقد اعتبرها ألفاظاً مرتبطة بواقع ثقافي معين ، ويجب أن نفهمها على ضوء واقعها الثقافي، واعتبر أن وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني ، وقد أصبحت ذات دلالات تاريخية ، والدكتور نصر حامد أبو زيد في كل أحكامه السابقة ينطلق من أن النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة ، تم إنتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي ، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة دي سوسير في كل ما يروّج له، وينتهي الدكتور أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية إلى المناهج اللغوية المشار إليها سابقاً.
ولا يتسع المقام الآن للرد على كل ما قاله الدكتور نصر حامد أبو زيد بالتفصيل لكن يمكن التساؤل: لماذا يعتبر الدكتور نصر حامد أبو زيد ألفاظ: الكرسي، العرش، الملائكة، الجن، الشياطين، الحسد، السحر ألفاظاً ذات دلالات تاريخية؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نُعفِي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات وجود ذهني فقط؟ لم نسمع بذلك حتى الآن.
ما زالت ثورة التقنيات والمعلومات بأبعادها الجديدة مجهولة النتائج على البشرية إلى حد كبير وبالذات فيما يتعلق بالهندسة الوراثية، وإن كانت ذات نتائج إيجابية في مجالات كثيرة.
لقد اعتبر الأخ الدكتور فتحي يكن أن هناك ثلاثة مشاريع في مجال العولمة:
لكني أميل إلى اعتبار أن هناك مشروعين هما: الرأسمالي والإسلامي، وليس هناك مشروع صهيوني منفصل، لأن المشروع الصهيوني جزء من المشروع الرأسمالي، والمشروع الحضاري الغربي حصيلة ازدواجية القيم المسيحية واليهودية، وقد ساهم اليهود في تشكيل المشروع الحضاري الغربي في كل أجزائه : الفكرية والاقتصادية والفنية والاجتماعية إلخ… والمشروع الصهيوني لا يملك العالمية لانحصار الدين اليهودي في شعب محدود، ولولا تحالف الصهاينة مع الغرب ومع المسيحية لما استطاعوا أن يقوموا بهذا الدور الذي نراه الآن.
أما بالنسبة للمشروع الإسلامي كما ذكر الأخ الدكتور فتحي يكن فإنه يملك مواصفات عقائدية وتشريعية وأخلاقية سليمة وصحيحة لأنها تتفق مع الفطرة، ويملك بالإضافة إلى ذلك من وجهة نظري تجربة تاريخية غنية صاغت حضارة متميزة ما زالت آثارها ماثلة في كل مكان، والأهم من ذلك أن هناك أمة عربية إسلامية ما زالت قائمة موجودة رغم كل الإفساد والتقطيع والإفقار والتضليل الذي مارسه الأعداء نحوها، يجمعها دين واحد، وقبلة واحدة، وكتاب واحد، ولغة واحدة، وتاريخ واحد، وعادات وتقاليد واحدة إلخ…
لا شك أن هناك بعض الأمراض والسلبيات التي تعاني منها هذه الأمة ، لذلك فالمطلوب من علمائها وقادتها وعي أمراضها، وحصر سلبياتها ، والاجتهاد في تلافي الأمراض والسلبيات والبناء على الإيجابيات.
إن هذه الأمة العربية الإسلامية التي تمتد على مساحة واسعة من الأرض في آسيا وأفريقيا ذات النسيج الاجتماعي المتقارب، والبنية الثقافية الواحدة، تشكّل زاداً قيّماً لمواجهة أخطار العولمة، وهو ما يفتقده الآخرون، وأوروبا خير مثال على هذا، فهي مؤلفة من أمم مختلفة، ولغات متعددة، وشعوب متنافرة، وتاريخ متشابك، ومع ذلك فهي تسعى إلى إيجاد أوروبا واحدة.
إن الاستفادة من رصيد الأمة العربية الإسلامية لولوج عصر العولمة يقتضي أن تسعى الشعوب والقيادات إلى ترجمة حقيقة الأمة الواحدة على أرض الواقع، ويقتضي تحصين الثوابت التي قامت عليها هذه الأمة وأبرزهما: الإسلام والعروبة، لذلك فإن قادة الفكر والباحثين والعلماء وذوي الرأي مدعوّون أن يدعموا هذين الثابتين، ويزيدوهما رسوخاً مع الزمن، ومن هنا فإن كل كاتب أو باحث أو ذي رأي يقصد الإسلام أو العروبة بسوء فقد نأى بنفسه عن هذه الأمة، وابتعد عنها.
مع كل هذه الجلبة حول العولمة فإنني متفائل بأننا سنخرج منها إلى وضع أفضل، لأن أمتنا تعرضت إلى التغريب في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد اعتبر الخديوي إسماعيل مصر قطعة من أوروبا، ودعا طه حسين إلى أخذ الحضارة الغربية حلوها ومرّها، وكانت نتيجة ذلك الصحوة الإسلامية التي جاءت تعبيراً عن العودة إلى الإسلام، ورفض التغريب، فكما انتصرت أمتنا ماضياً ستنتصر مستقبلاً بإذن الله.
هذه ورقة قدمت من المشرف الى مؤتمر كلية الشريعة في جامعة الكويت المنعقد عام 2000م حول العولمة.