حقائق عن العسكرة والأسلمة في الثورة السورية

ها قد مضى ست سنوات على انطلاق الثورة السورية وعلينا أن نقف أمام أحداثها وتطوراتها، لنقومها التقويم الصحيح حتى نستطيع أن نكمل مسيرتها، وأنا سأقف امام ظاهرتين هما “العسكرة” و”الأسلمة” فهل كانتا ظاهرتين صحيّتين؟ وهل كانت نتائجهما إيجابية ام سلبية على شعبنا في سورية؟

من الواضح أن الثورة السورية بدأت سلمية، وأعلنت ذلك في المظاهرات التي قامت بها جماهير شعبنا في مختلف المدن، واستمرت سلمية لمدة ستة أشهر، لكن النظام كان عنيفاً منذ اللحظة الأولى في مواجهة هذه الثورة، وحتى الجانب السلمي فيها، فكان يواجه المظاهرات بالعنف، ويفرقها، ويعتقل كل من يصل إليه من المشاركين، ويعذبهم أقسى أنواع التعذيب، في أقبية مخابراته، ثم يقدمهم إلى المحاكمات الصورية.

ثم تحولت الثورة في الأيام التالية إلى ثورة مسلحة، فتشكلت الفصائل العسكرية من مثل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”، و”جيش الصحابة” إلخ…، وأصبحت هناك عدة أجسام للثورة: فهناك جسم عسكري وهناك جسم سياسي، وهناك جسم جماهيري إلخ …، فلماذا تحولت الثورة إلى هذه الأجسام، ولماذا وجدت؟ وهل وجود “جسم عسكري” في الثورة أمر طبيعي؟ وما مردوده على الثورة؟

إن تحول “الثورة السلمية” إلى “ثورة مسلحة” أمر طبيعي، وغير مستغرب، وذلك لعدة أسباب:

  • إنه سنة كونية:

إن تحول الثورة السورية من “سلمية” إلى “مسلحة” ليس بدعاً في الثورات، فكل الثورات التي استهدفت تغيير النظام السابق فعلت ذلك، واستخدمت السلاح في مرحلة من المراحل، فقد فعلت ذلك الثورة الأمريكية التي قادها جورج واشنطن عام 1775، وفعلت ذلك الثورة الفرنسية عام 1789، وفعلت ذلك الثورة البلشفية عام 1917، وكذلك في التاريخ الإسلامي عندما ورث العباسيون الأمويين، والموحدون المرابطين، والعثمانيون المماليك، فقد استخدموا السلاح من أجل إزاحة النظام القديم واستقرار نظامهم الجديد.

لذلك عندما تحولت الثورة السورية من “سلمية” إلى “مسلحة” كان هذا التحول طبيعياً، مرت به كل الثورات التي قامت من أجل التغيير.

  • طبيعة النظام العسكرية الوحشية:

لقد قام النظام البعثي الاسدي على البطش العنيف، والقبضة الأمنية الشديدة، فهناك ثلاثة عشر جهازاً أمنياً، وربط النظام كل تحركات الشعب في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ… بالأجهزة الأمنية، وأحصى أنفاس الناس، وشكلت هذه الأجهزة مصدر رعب وقلق مستمرين لكل جماهير الشعب.

ومن الجلي أيضا أن النظام قد استخدم آلته العسكرية لقمع عدة ثورات سابقة بدءاً من ثورة عام 1964 والتي قادها مروان حديد رحمه الله والتي دمر الجيش فيها جامع السلطان، ثم استخدم النظام الجيش من أجل دخول المسجد الأموي عام 1965 واعتقال المعتصمين إلخ…، ثم استخدم الجيش عام 1981 وعام 1982 في تدمير عدة مدن منها: حماة وجسر الشغور وحلب إلخ….

إن نظام البعث السوري -كما هو واضح- نظام عسكري مخابراتي قائم على العنف والبطش بالدرجة الأولى، منذ استلامه السلطة التي أخذها بالقوة، وقد مارس هذا العنف والبطش من خلال قواته المسلحة على مدى خمسين عاماً.

إن الأمر الطبيعي لثورة الشعب التي واجهت هذا النظام أن تتجه إلى “العسكرة” لأنه لا يمكن أن تحقق أهدافها في إيجاد نظام جديد يحقق العدل والحرية والمساواة، إلا إذا كسرت آلته العسكرية، وهذا ما اتجهت إليه. فماذا حققت “الثورة المسلحة” على صعيد المكاسب في الأرض السورية؟

لقد دمرت “الثورة المسلحة” آلة النظام العسكرية، وأجهزته الأمنية، وتراجعت قوته العسكرية التي كان يبطش بها إلى 20% من قوته الأصلية وقد سقط مرتين:

الأولى: سقط النظام الأسدي في نهاية عام 2012، ولكن النظام الإيراني أنقذه عندما أمر الخامنئي “حزب الله” بالدخول في معركة دعم النظام، وخاض “حزب الله” معركة القصير، وبالفعل استطاع الانتصار في حزيران(يونيو) 2013 مما جعل النظام يقف على قدميه.

الثانية: سقط النظام الأسدي في خريف عام 2015 لكن تدخل القوات الروسية في نهاية أيلول (سبتمبر) هو الذي أنقذ النظام وجعله يقف على قدميه، واعترف لافروف بهذه الحقيقة بوضوح، فقال: “كان النظام سيسقط خلال أسبوعين من نهاية أيلول (سبتمبر) عام 2015 لكن تدخلنا هو الذي أنقذه”

لذلك عندما يأتي بعض الكتاب ويذمون “العسكرة” ، يفعلون ذلك وهم يتناقضون مع حقائق “التاريخ” و”الواقع”.

فالتاريخ يقول: أنه لا بد من “العسكرة”، وهي ما قامت عليه جميع الثورات التي استهدفت تغيير النظام السابق، و”الواقع” الذي يقول: أنه لولا “عسكرة الثورة” لدمرت قوات الأسد العسكرية والمخابراتية ثورة الشعب الجماهيرية دون أن يرف لها جفن، ولأنهتها كما أنهت ثورات سابقة، وإن استمرار المعارك بين الشعب والنظام الأسدي لمدة ست سنوات بين كر وفر، وبين مد وجزر، إنما يعود الفضل فيه إلى تحول الثورة من “ثورة سلمية” إلى “ثورة مسلحة”.

والسؤال الآن: لماذا لم تحقق الثورة بشقيها “المدني” و”العسكري” النصر على النظام؟

ليس من شك بأن “الجانب العسكري” ليس هو المسؤول عن عدم تحقيق النصر بشكل كامل، فهو قد أعطى بعض النتائج كما رأينا.

فعدم تحقيق الثورة لانتصارها -بشقيها المدني والعسكري- على النظام جاء من عدة عوامل أخرى، أبرزها: التفرق والتشرذم الذي نعاني منه على المستويين: المدني والعسكري، ومن القصور الذي تعاني منه الثورة في مجال بناء الفرد، وفي مجال البناء الجماعي، ومن القصور في تمحيص التجارب السابقة، ومن القصور في وعي القيادات وبرامجها وفاعليتها بشكل عام على كل الأصعدة.

أما فيما يتعلق “بأسلمة الثورة”، فهي ظاهرة إيجابية، وعلينا أن نقدرها تقديراً عالياً، وبخاصة في بلد كسورية، وذلك لأن النظام البعثي عندما جاء إلى الحكم، واستلم الدولة، استهدف -منذ اللحظة الأولى– أمرين:

الأول: استئصال الإسلام من عقل الشعب وقلبه، لأنه اعتبره ركيزة التخلف والانحطاط، لذلك لابد من استئصاله من أجل الانطلاق في معارج الرقي والنهضة والتقدم.

وقد صرحت كثير من قياداتهم بذلك في عدة مرات، ودونوا ذلك في … كتبهم ومؤتمراتهم وأقوالهم أكثر من أن تحصى، وربما يعبر عن مكنون صدورهم بيت الشعر الذي كتب على جدران الثكنات العسكرية، وعلى جدران الكثير من المؤسسات الحكومية، وهو:

آمنت بالبعث ربا لا شريك له = وبالعروبة دينا ماله ثاني

الثاني: الحجر والتضييق على الإسلاميين، واعتبر حزب البعث منذ اللحظة التي استلم الحكم فيها أنه في عداء تاريخي ومستحكم مع طبقة الاسلاميين، وذلك لأنه اعتبر أن طبقة العلماء الإسلاميين هم مطية الرجعية والاقطاعيين والرأسماليين، لذلك لا بد من تحطيم نفوذهم عند العامة.

وهو قد وضع برامج متعددة من أجل الوصول إلى ذينك الهدفين اللذين رسمهما في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والإعلامية والسياسية والاجتماعية.

لكن أمتنا في سورية كانت أكبر من مخططات البعث، وأقوى من إفساده، فاستمرت بالتمسك بمبادئ الإسلام، وقيمه، وأخلاقه، وآدابه، ونجحت في هذا برغم دأب النظام وحرصه على تنفيذها بشكل كامل.

لذلك تفاجأ النظام الأسدي، وسواه من أعداء الأمة، من أن مادة الثورة في سورية كانت الجماهير الإسلامية التي خرجت من المساجد، وكانت هتافاتها إسلامية بكل معنى الكلمة، وإن التضحيات الجلى التي قدمها الشعب حتى الآن خلال السنوات الست الماضية، وهي: مليون شهيد، وأكثر من مليون جريح، وتهجير 13 مليون بين الداخل والخارج، وتدمير معظم مدن وقرى سورية إلخ …، هذه التضحيات كان وراءها الإسلام العظيم الذي تغلغل في قلوب هذه الجماهير وعقولها.

لذلك أعتقد أن على قيادات العمل الإسلامي في سورية أن تضع هذه الحقائق أمام أعينها، وهي تتخذ المواقف السياسية أو العسكرية أو الإدارية أو التنظيمية إلخ …، وعليها أن تزيد من “أسلمة” الواقع ولا تتردد في “أدلجة “عقول وقلوب أبناء هذا الشعب بالإسلام، لكي يزداد صلابة وتأييداً للثورة، ووقوفاً إلى جانبها، وصبراً من أجل تحقيق النصر على النظام المجرم.

لقد تأكد -الآن- بعد مرور ست سنوات على “ثورات الربيع العربي” في جميع البلدان العربية كسورية ومصر وتونس وليبيا واليمن، أن الإسلاميين هم مادة الثورة الرئيسية دون منازع، وقد وثق ذلك “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” الذي يرأسه عزمي بشارة في كتاب جديد لدراسة “ثورة 25 يناير” وقد حمل الكتاب عنوان “ثورة مصر” وقد جاء الكتاب في جزئين: الأول: حمل عنواناً فرعياً هو “من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير” واحتوى على 720 صفحة، والجزء الثاني حمل عنواناً فرعياً آخر هو “من الثورة إلى الانقلاب” واحتوى على 672 صفحة.

وقد دوّن باحثون في هذين الكتابين مقابلات أجروها مع الثوار الذين صنعوا “ثورة 25 يناير”، بتكليف من “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” ووثقوا في هذين الكتابين تطورات الثورة يوماً بيوم، وكانوا يعرّفون القارئ بانتماء هؤلاء الثوار فرداً فرداً، ويذكرون الحزب والجماعة والجهة التي يرتبط بها سواء أكانت إسلامية أم ليبرالية أم شيوعية أم قومية إلخ…

وعند إجراء إحصاء يحدد الأشخاص المنتمين للجماعات والتيارات الإسلامية، بالمقارنة مع كل الجهات الأخرى، وجدنا أن عدد الإسلاميين 93 من عدد 333 مجموع الذين قادوا الثورة، ودوّن الباحثون أقوالهم وتصرفاتهم في الثورة على مدار أيام الثورة لحظة بلحظة.

ثم جاء التصويت في مصر في عدة مرات بعد انتصار الثورة في عامي 2011 و2012 في عدة مناسبات، منها: انتخاب المجالس النيابية، و انتخاب رئيس الجمهورية، والتصويت على الدستور، مؤكداً أن الإسلاميين في مصر هم الأكثر حضوراً وشعبية من جميع التيارات الأخرى، وأرجح أننا لو أجرينا مقابلات مماثلة مع قيادات الثورة في إطار الثورة السورية وأجرينا استفتاءات كالتي جرت في مصر فسنجد النتائج مشابهة في سورية لما عليه في ثورة 25 يناير في مصر إن لم يكن أكثر في كل المجالات.

الخلاصة: بدأت الثورة في سورية “سلمية” ثم تحولت إلى “مسلحة” والسبب في هذا هو طبيعة النظام الأسدي المجرم الذي يقوم على البطش والقتل والعنف، لكن عدم الانتصار يعود إلى التفرق والتشرذم في جسم الثورة في جهة، وتدني وعي القيادات وفاعليتها من جهة ثانية.

أما “الأسلمة” في الثورة، فقد استهدف البعث منذ مجيئه تدمير الإسلام والمسلمين، لكنه فشل في ذلك، وخرجت الثورة من المساجد، وكان جمهورها الأساسي شعبنا المسلم، لذلك علينا أن نعمق “الأسلمة” في عقول وقلوب هذا الشعب لكي يكمل المسيرة، فيحقق النصر على النظام الأسدي المجرم، وعلينا أن نوجد حلولا للفرقة والتشرذم من خلال الالتقاء على المشتركات بين مختلف الفصائل.

رابط المقال من موقع السورية نت حقائق عن “العسكرة” و”الأسلمة” في الثورة السورية

اترك رد