شهدت الساحة الثقافية لدى المجتمع المسلم في العصور الماضية بروز طبقة العلماء، وكانت صنواً لطبقة الأمراء، وربما عاد ذلك إلى احتفال الدين بالعلم والعلماء والحض على التفكير والتدبّر وورود الآيات والأحاديث المتعدّدة في هذا المجال، فحثّ الإسلام المسلم على التعلم، وأجزل مثوبة طالب العلم، وأعلى مكانة العلماء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
“من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع، وإن العالِم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” (رواه أبو داود والترمذي).
وبيّن القرآن الكريم ارتفاع مكانة أهل العلم فقال تعالى:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة،11).
وقرن القرآن الكريم شهادة العلماء بشهادة الله والملائكة فقال تعالى:
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط)(آل عمران،1).
وشهدت الساحة الثقافية لدى المجتمع المسلم غنى في الألقاب المستخدمة بحق طبقة العلماء فورد منها: المجتهد المطلق، والمجتهد في المذهب، والمجتهد الرجح، والحافظ، والفقيه، والمحدّث إلخ…، لكنّ الساحة الثقافية الإسلامية شهدت خلال القرنين الماضيين اضطراباً في تحديد “العالِم” ومواصفاته، وشهدت كذلك فقراً في المصطلحات التي تتعامل معه، ويعود ذلك إلى غياب المعايير الواضحة، التي يجب أن يتمّ من خلالها إعطاء هذا اللقب، لذلك نجد أن كثيراً من الأشخاص أخذوا هذا اللقب دون أيّ استحقاق أكيد له، وكان رصيدهم فقط الكمّ من الإنتاج الكتابي دون أن يكون هناك عمق أو إبداع أو إضافة في أيّ مجال من المجالات، لذلك ومن أجل المساهمة في حلّ هذه الإشكالية سأستخلص بعض المعايير من خلال العودة إلى سيرة العلماء السابقين ومن خلال العودة إلى كتب الأصول التي تحدّثت عن بعض مواصفات المجتهد، ثم سأنتقل إلى العصر الحاضر لأحدّد صوراً من الإشكاليات التي نعاني منها في الحقل الثقافي الإسلامي.
إذا استقرأنا صفات العلماء السابقين على مدار التاريخ الإسلامي نجد أنّ أبرز الصفات التي أهّلتهم لهذا اللقب، والتي اشتركوا فيها، هي:
وسنحاول أن بنيّن كيف تحقّقت هذه الصفات من خلال سيرة ثلاثة علماء هم: الشافعي، أحمد بن حنبل، ابن تيميّة.
1- الربانية:
تجلّت الربانية عند الشافعي عندما صدع بالحق وأعلن مآخذه على مالك وتلاميذه في عدم أخذهم بأحاديث الآحاد، أعلن ذلك في كتاب “الأُمّ” في فصل يسمّى “اختلاف مالك”، صدع بالحق مع أنه تلميذ لمالك يقرّ بفضله عليه، ومع أنّ مذهب مالك كان راسخاً في المغرب والقول في مالك له عواقبه الكثيرة، لكنّ الصدع بالحق أَوْلَى مهما كانت النتائج والمآلات، وهذا ما يفعله الربّانيّون، الذين عرفوا الحق وتشرّبته نفوسهم العظيمة.
أمّا أحمد بن حنبل فالربانيّة تتجلّى في كل مراحل حياته، ففي شبابه اتجه إلى جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتجه في الوقت نفسه إلى تطبيق سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل جزئيات حياته، وكان لا يترك سنّة إلا واجتهد في تطبيقها، وفي كهولته برزت فتنة القول بخَلْق القرآن على يد الوزير وهدّد المأمون كل من لا يقول بخَلْق القرآن، وطلب من وزيره أن يحضره إليه مكبّلاً إلى ثغره الذي يقاتل فيه، وتراجع من تراجع من العلماء عن قول كلمة الحق، ولكنّ أحمد بن حنبل صدع بكلمة الحقّ وتعرّض نتيجة لذلك للعذاب والتنكيل والسجن والإيذاء، ومع ذلك ثبت على القول بأنّ القرآن كلام الله ليس بمخلوق لأنه هذا هو الحق الذي يؤمن به، ولأنه رباني يخشى عذاب الله ولا يخشى عذاب المخلوقين، ويتطلّع إلى رضوان الله ولا يتطلّع إلى رضا البشر الفانين.
وفي شيخوخته أقبلت عليه الدنيا وذاع صيته وسعى إليه الخليفة والولاة، وأغدقوا عليه الأموال، وفتحوا له أبواب كل شيء، وربما كان هذا امتحاناً لربانيته أقسى من الامتحان السابق، لكنه صمد للإغراء ولم يرض أن يأخذ شيئا مما عرض عليه، وقاطع ابنه لأنه رضي أن يأخذ أموالاً من الخليفة، فبعد أن يئس الخليفة من الأب حاول مع الابن، لكن الأب عاقب الإبن بأن امتنع من الأكل عنده، فأحمد بن حنبل كان ربانياً في شيخوخته، كما كان ربانياً في كهولته وشبابه.
أما ابن تيميّة فالمواقف التي تشهد على ربانيّته وصدعه بالحق أكثر من أن تحصى، فقد أصرّ على القول بعدم تأويل صفات الله وأنّ هذا هو قول الله سبحانه وتعالى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف الصالح، وتحدّى خصومه وأعطاهم فرصة طويلة من الزمن كي يأتوا بما هو مخالف لما يقوله ويعلنه، ثم دخل السجن نتيجة لصدعه بالحق وعرضوا عليه أن يخرج من السجن شريطة تراجعه عن بعض ما يعتقده فرفض ذلك، كذلك صدع بالحق فيما يتعلّق بحكم الحلف بالطلاق وأنه لا يوقع الطلاق، ورجاه أصدقاؤه ألاّ يفتي بذلك ولكنه أبى مهما كان الثمن الذي يدفعه لأنه رأى عدم الإفتاء كتماناً للعلم، وكان الثمن السجن الذي مات فيه ليخرج من هناك إلى قبره، وهناك مجالات أخرى صدع ابن تيميّة فيه بالحق وكان الثمن مواجهة وسجالاً وكتابة ومنها: صدعه بالحق في موجهة التتار، والصوفية، والباطنية، وأصحاب المنطق والفلسفة إلخ…
2- الإحاطة بالعلوم الإسلامية:
إنّ الصفة الثانية التي نلمسها في علماء الأمّة السابقين هي إحاطتهم بالعلوم الإسلامية، كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم العربية والفقه والسيرة. فالشافعي قد حفظ القرآن وهو صغير، ثم ارتحل إلى البادية من أجل استكمال مَلَكَة الفصاحة، فتمكّن من اللغة العربية، لذلك كان بيانه فيما كتب أفصح بيان وأبلغه، ثم ارتحل إلى المدينة وتتلمذ على يدي مالك بن أنس، فدرس الموطّأ، فاستوعب فقه الحجازيين، ثم انتقل إلى العراق وصحب محمد بن الحسن الشيباني، واستوعب فقه العراقيين وحمل معه إلى مكّة وقر بعير من الكتب …
أمّا أحمد بن حنبل فقد تتلمذ على مشايخ بغداد واشتغل في الحديث فجمع أكبر كتاب حديث وهو مسند أحمد بن حنبل، كما استفاد من تنقّلاته بأن التقى بعلماء عصره في مدن العالم الإسلامي الكبرى في مكّة والمدينة واليمن، وكان لقاؤه بالشافعي في مكّة واستماعه إليه وإعجابه بما يقول فاتحة خير له.
أمّا ابن تيميّة فثقافته الإسلامية الموسوعية التي شملت كل المجالات من قرآن وحديث وفقه وأصول فقه وسيرة وتاريخ وطوائف وفِرَق إسلامية وغير إسلامية أوضح من أن يُفصّل فيها أو يقدّم الدليل عليها.
3- الإبداع في مجال أو أكثر من مجالات العلوم الإسلامية:
إنّ علماء الأمّة الإسلامية السابقين لم يكونوا مستوعبين فقط للعلوم الإسلامية، بل كانوا مبدعين كل واحد في مجال من المجالات العلمية، وهو ما استحقّوا من أجله لقب “علماء”، فالشافعي -رحمه الله- قد أبدع علماً بكامله هو علم أصول الفقه.
أمّا أحمد بن حنبل فقد رسّخ أصول أهل السنّة في عدّة مجالات أبرزها: موقفه من صفات الله، وتأصيله لذلك في الرسالة التي وضعها تحت عنوان “رسالة الردّ على الزنادقة والجهمية” والتي أصبحت أصلاً في الموقف المخالف للمعتزلة والتي اعتمد عليها عشرات العلماء في تأصيلهم موقفهم نحو صفات الله تعالى.
أمّا ابن تيميّة فقد أبدع أكثر من غيره وفي مجالات متعدّدة، وكان أبرزها تدعيمه للقياس الأصولي في وجه القياس المنطقي الذي استشرت فتنته بين المسلمين بما كتبه من ردود على منطق أرسطو، وتبيان فساده وتوضيح أنه لا يفيد علماً، والتوضيح في الوقت نفسه أنّ القياس الأصولي الذي وضعه المسلمون أقرب إلى الموضوعية والمنهجية وإفادة العلم من القياس المنطقي.
4- الارتباط بقضايا الأمّة:
لقد أدرك علماء الأمّة الأخطار المحيطة بالأمّة ،واستشرفوا بعضها الآخر قبل أن تستكمل دائرتها، لذلك نجد أنهم واجهوا الأخطار بعلمهم وأقلامهم وأجسادهم، وتعرّضوا للسجن والتعذيب والإيذاء، وقدّموا مثلاً رائعاً في الوعي والتضحية.
فقد استشعر الشافعي خطر الصراع بين مدرسة الرأي والحديث على الأمّة، كما استشرف اضطراب الساحة الفقهية في مجال الاجتهاد والتعامل مع النص القرآني والحديثي، فابتدع علماً جديداً هو “علم أصول الفقه”، كما وضع أصول القياس من أصل وفرع وعلّة وحكم من أجل ضبط عملية الاجتهاد.
أمّا أحمد بن حنبل فقد استشرف خطر الجهمية والزنادقة وخطر القول بخَلق القرآن على الأمّة، كما شعر بخطر التصوّف كما استشرف خطر التعصّب المذهبي لذلك تصدّى لهذه الأخطار، وأرسى أصولاً تسدّد مسيرة الأمّة، فوضع “رسالة الردّ على الزنادقة والجهمية” من أجل تصويب الموقف من صفات الله تعالى، كما وضع كتاب “الزهد” من أجل تصويب الموقف من التصوّف، كما وضع “المسند” من أجل تصويب الموقف من خطر التعصّب المذهبي القادم، وقال عن المسند: “إنه سيكون للناس إماماً”.
أمّا ابن تيميّة فقد استشعر أخطاراً متعدّدة على الأمّة منها: خطر التتار، وخطر المتصوّفة، وخطر الفِرَق الباطنية، وخطر التعصّب المذهبي فتصدّى لكل هذه الأخطار ووضّحها، وبيّن أبعادها وحذّر منها، وكتب حولها الكتب والرسائل.
5- الاطلاع على علوم العصر:
دخلت علوم جديدة على الساحة الثقافية الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي، وجاءت هذه العلوم الجديدة من احتكاك المسلمين بالشعوب المفتوحة، وأبرز العلوم جاءت من اليونان في الغرب ومن الهند وفارس في الشرق، وترجم الكثير منها إلى العربية، ويتضح من خلال التدقيق في سيرة علماء أمتنا أنهم اطلعوا على هذه العلوم فلو أخذنا الشافعي كمثال على ذلك، فقد ذكر المؤرّخون لسيرته أنه اطلع على منطق اليونان واطلع على علم الكلام الذي هو في الأصل مذهب الذَّرة الذي جاء من ديمقريطيس اليوناني، وتبحّر فيه من أجل مواجهة فِرَق المتكلّمين، ونقلوا أيضاً أنه ناقش بعض رؤوس تلك الفِرَق ومن أبرزهم حفص الفرد وبشر المريسي. لذلك جاءت فتاويه قاسية بحقّهم لأنه عرف مدى الضلال الذي وقعوا فيه، فقد جاء في إحداها حيث قال: “حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويُطاف بهم في القبائل والعشائر ويُقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة وأخذ في الكلام”. إنّ هذه المعرفة الدقيقة لعلم الكلام وأصحاب الكلام هي التي جعلته يعطي آراء سديدة سليمة في مجالات الردّ عليهم، وجعلته شديداً في الفتاوي نحوهم.
وكذلك كان أحمد بن حنبل مطّلعاً على علوم عصره، وبالذات ما جاء مع السمنية من الهند وهم الذين كانت لهم آراء خاصة بالنبوّة والعقل، وكانوا يجتهدون بإثبات تناقض القرآن الكريم، وقد كانت آراء السمنية هي الأصل في فرقة الزندقة التي اتجهت إلى تشكيك المسلمين في سلامة القرآن الكريم في مرحلة مبكّرة من العصر العباسي، كذلك اطلع أحمد بن حنبل على أصول علوم التصوّف وقولها بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وكذلك اطلع على مذهب الذَّرة وعلم الكلام، إنّ هذا الاطلاع على كل هذه العلوم هو الذي جعله يكتب “رسالة الردّ على الزنادقة والجهمية”، وينجح في إقامة الحجّة عليهم.
أمّا ابن تيميّة فإنّ معرفته بعلوم عصره لا تحتاج إلى دليل أو برهان، فقد كان عارفاً بالفلسفة اليونانية وأصنافها ورجالاتها، وكان مطّلعاً على منطق أرسطو، وكان عالماً بالتطوّرات التي مرّت بها الديانة المسيحية، كما كان عارفاً بعلوم الهند إلخ…، وكان هذا الاطلاع الواسع على علوم عصره مؤثّراً على عمق معالجته للقضايا الفكرية التي تحدّث عنها وخاض فيها.
العالِم في العصر الحاضر:
وإذا انتقلنا إلى العصر الحاضر فإننا نجد قلّة من الأشخاص الذين تحقّقت بهم كل صفات العالِم والمعايير التي استقرأناها من التاريخ الإسلامي، بل نجد أشخاصاً تحقّقت فيهم بعض الصفات والمعايير دون الأخرى، وهذا الخلل كان له أثره على الساحة الثقافية الإسلامية، وعلى تعثّر حركة المجتمع الإسلامي وعدم نهوضه. فما صورة العالِم في الوقت الحاضر على ضوء ما عرفناه من مواصفات للعالِم في الماضي؟ نجد الصور التالية:
والسؤال الآن: ما الأسباب في وجود هذه الإشكاليات في الساحة الثقافية الإسلامية؟ هناك عدة أسباب أبرزها انقسام التعليم في القرن التاسع إلى نوعين من التعليم هما: التعليم المدني والتعليم الديني، وقاد ذلك الانقسام إلى وجود نوعين من المدارس تهتم إحداها بالعلوم العصرية من مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات إلخ…، والأخرى بالعلوم الشرعية من مثل الفقه والعقيدة والسيرة إلخ…، وأدى ذلك الانفصام إلى جمود العلوم الشرعية لابتعادها عن منابع التطور العلمي والعقلي، ومن المعروف ترابط العلوم مع بعضها في تاريخنا السابق، فكنت ترى العلوم الشرعية مرتبطة بالعلوم التجريبية والنظرية والعقلية، يؤثر كل منهما بالآخر، فقد ولّدت الحاجة إلى معرفة أوقات الصلاة، والحاجة إلى تحديد اتجاه القبلة في المساجد إلى أن يكون هناك ميقاتي في كل مسجد ومدينة وقرية يزاوج بين العلوم الشرعية والعلوم الفلكية من أجل القيام بالمهمة السابقة، وكذلك ولّدت الحاجة إلى توزيع الميراث بين الوارثين إلى الجمع بين علم الفرائض الشرعي وعلم الجبر العقلي، كذلك تطلب جمع أموال الخراج من الفلاحين إلى الجمع بين الأنصبة الشرعية المطلوبة وعدة علوم كالهندسة والرياضيات من أجل توزيع المياه وحساب المحاصيل.
لم يكن الجمع بين العلوم العقلية والنقلية فقط على مستوى حاجات الفرد المسلم وحاجات المجتمع المسلم بل كان أيضاً على مستوى العالِم ذاته، فكنت ترى العالِم المسلم يجمع بين الكتابة في التفسير والفقه والأصول والتاريخ والسير والبلاغة والبيان، وبين الكتابة في الفلك والطب والتشريح والأدوية والنبات، وقد كان الجمع بين العلوم النقلية والعقلية ليس على المستويين السابقين فقط إنما على مستوى ثالث هو مستوى المكان، فكان الجامع يجمع في أروقته العلوم العقلية والنقلية لذلك اشتهرت جوامع في العالم الإسلامي كانت محجة لطلاب العلم في العلوم الشرعية والعلوم العقلية كالجامع الأزهر وكجامع الزيتونة وجامع القيروان، وكانت هناك مدارس تجمع بين العلوم العقلية والنقلية أسسها بعض المصلحين لأغراض معينة مثل المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك السلجوقي لمواجهة الدعوة الفاطمية في القرن الخامس الهجري وأبرزها: المدرسة النظامية في بغداد والمدرسة النظامية في نيسابور التي تخرج منها أبو حامد الغزالي ليصبح رئيساً للجامعة النظامية في بغداد، وكانت تلحق مراصد فلكية ومستشفيات ومكتبات ببعض الجوامع أو المدارس.
إن تقسيم المدارس في القرن التاسع عشر إلى نوعين: مدارس تهتم بالعلوم الدينية، ومدارس تهتم بالعلوم المدنية عدا أنه كان منافياً ومخالفاً لمسيرة العلوم في المجتمع الإسلامي خلال القرون السابقة على مستوى البنية الداخلية للعلوم وعلى مستوى العلماء وعلى مستوى الجوامع والمدارس، كان ضربة قاسمة للعلوم الشرعية من ناحية قلة إقبال الناس عليها، فقد ربطت الدولة الوظائف والمناصب بالعلوم المدنية، وكان هذا عاملاً رئيسياً في جعل جماهير الناس ينصرفون عن المدارس الدينية ويقبلون على المدارس المدنية طلباً للعيش والرزق وهذا أمر طبيعي، وهم معذورون في جانب كبير منه.
كانت الأوقاف التي شغلت ثلث ثروة العالم الإسلامي مدداً رئيسياً لطلاب العلم، وللكتاتيب في القرى والمدن، والمدارس الملحقة بالجوامع أو المستقلة عنها، وللمكتبات، وللمراصد الفلكية، وللمستشفيات والصيدليات إلخ…، ثم استولت الدولة في استانبول والقاهرة على الأوقاف في النصف الأول من القرن التاسع، فقد استولى محمد علي باشا على الأوقاف في مصر بحجة أن الدولة ستنفق على المدارس والمساجد من ميزانيتها، وقد وقع الاستيلاء على هذه الأوقاف – في الوقت نفسه – الذي انقسم التعليم إلى ديني شرعي ومدني عصري. إن إيقاف المدد المالي عن طلاب العلم وعن المدارس الكتاتيب والجوامع والمكتبات أفقد العلوم الشرعية عاملاً من عوامل نموّها وتوسّعها.
خلاصة القول إنّ أهم عاملين أدّيا إلى بروز الإشكاليات السابقة المتعلّقة بوجود العلماء وضعف فاعليّتهم، وعدم امتلاكهم للمعايير في أن يكونوا علماء حقيقيين، هما:
الأول: انقسام المدارس إلى مدارس دينية ومدارس مدنية، مما جعل جماهير الناس ينصرفون عن المدارس الدينية ويقبلون على المدارس المدنية رغبة في الأخذ بأسباب العيش من جهة، ومما جعل العلوم الإسلامية لا تستفيد من تطور بعض العلوم المشابهة في الغرب من جهة ثانية.
الثاني: استيلاء الدولة على الأوقاف مما أفقد العلماء والمدارس الشرعية مصدراً رئيسياً من مصادر الإنفاق الضروري لنموّها وتطوّرها واستقلالها.
في النهاية نقول: لقد كان للعلماء دور مهم في المجتمع الإسلامي خلال القرون السابقة وعاد ذلك لاحتفال الإسلام بالعلم والتفكير والعقل، وقد أفرزت الساحة الثقافية الإسلامية معايير طالبت العلماء بتحقيقها، وكان أبرزها كما استقرأناها من سيرة العلماء: الربانية، والإحاطة بالعلوم الإسلامية، والإبداع في مجال أو أكثر من مجالات العلوم الإسلامية، والارتباط بقضايا الأمّة، والاطلاع على علوم العصر، لكننا نجد أنّ هذه المعايير لم تتحقّق كلها إلاّ في قلّة من الأشخاص المعاصرين، ونجد أنّ معظم العاملين في الحقل الثقافي الإسلامي حقّقوا بعضها دون بعضها الآخر، فنجد شخصاً حصل على لقب “عالِم” دون أن يقدّم أيّة إضافة في أيّ شأن ثقافي، وآخر يكتب في الشأن الإسلامي دون ارتباط بقضايا الأمّة، وثالث مطّلع على علوم الغرب جاهل بالعلوم الإسلامية، ورابع مطّلع على العلوم الإسلامية جاهل بعلوم الغرب إلخ… إنّ هذا النقص في استكمال المعايير والمواصفات المطلوبة في العاملين في الشأن الثقافي الإسلامي كان أبرز الإشكاليّات المعاصرة التي واجهت الأمّة، والتي أضعفت مسيرتها، والتي تعود إلى عوامل متعدّدة أبرزها: انقسام التعليم في القرن التاسع عشر إلى ديني ومدني، وإلى استيلاء الحكومات على الأوقاف.