دعت أمريكا إلى تطبيق الديمقراطية في العالم العربي بعد أحداث 11 سبتمبر، وقد قدّمت عدّة مشاريع لتحقيق هذا الهدف، منها: مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق الأوسطية التي طرحها كولن باول في 12/12/2003م، والتي تدعو إلى نشر الثقافة الديمقراطية، والتي ستقيم ورشات تدريب للمرأة على كيفية ممارسة الحق الانتخابي، والتي دعت أشخاصاً متعدّدين من مختلف النقابات والمهن إلى أمريكا من أجل مشاهدة صور الممارسة الديمقراطية، ومنها: مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه بوش والذي نشرته “الحياة” في 13/2/2004م، والذي دعا فيه إلى إقامة مجتمع ديمقراطي، وإلى إقامة مجتمع المعرفة والاقتصاد الحرّ والعدل والتنمية، وقد برّرت أمريكا احتلالها للعراق في نيسان (ابريل) 2003م بأنها تريد إزالة نظام ديكتاتوري وتريد إقامة نظام ديمقراطي في العراق يكون نموذجاً يحتذى به، وتشع الديمقراطية منه إلى كل العالم العربي.
ليست دعوة أمريكا إلى تطبيق النموذج الديمقراطي في العالم العربي شيئاً غير مسبوق، بل سبقتها انكلترا إلى ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، وقد نجحت في ذلك فأقامت تجربتان ديمقراطيتان غنيتان في كل من مصر والعراق: أما مصر فقد قامت فيها ثورة 1919م بعد الحرب العالمية الأولى، وقادها سعد زغلول، وقد انتهت هذه الثورة بقيام نظام ديمقراطي بكل معنى الكلمة، فقد أفرزت الثورة دستوراً عام 1923م، وانبثق من الدستور برلمان وحكومة منتخبة مسؤولة أمام البرلمان، وتشكّلت أحزاب سياسية فعّلت الحياة السياسية، أبرزها: الوفد والأحرار الدستوريّون، وصدرت صحف مختلفة، وانبثق جيل مؤمن بالديمقراطية أبرزهم: أحمد لطفي السيد “أستاذ الجيل”، وطه حسين، وعباس محمود العقّاد الذي سجن في عام 1930م دفاعاً عن الديمقراطية إلخ…
أما العراق فقد قامت ثورة العشرين فيه إثر الاحتلال البريطاني له، وقد صدر دستور عام 1924م لتحقيق نموذج ديمقراطي، فحدّد الدستور الحقوق والواجبات، وأرسى الانتخابات، وتشكّلت أحزاب سياسية متعدّدة، وصدرت صحف ومجلات ذات مشارب مختلفة، والأهم من ذلك أن جيلاً كان موجوداً مؤمناً بهذه الديمقراطية على رأسهم كامل الجاديرجي، ومن ضمنهم طه الهاشمي، وصالح جبر، وجعفر العسكري، وعلي جودة الأيوبي إلخ…
فماذا كانت نتائج التطبيق الديمقراطي في أكبر قطرين عربيّين؟ وهل نجح؟ هل ترسّخت الديمقراطية وأصبحت جزءاً من كيان القطرين؟ لا لم تترسّخ، بل جاء نظام عسكري إثر انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958م في العراق، فألغى الديمقراطية ثم جاءت ديكتاتورية صدّام حسين في عام 1968م، أما مصر فقد ألغى انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر عام 1952م التجربة الديمقراطية، واعتبر أن ثورة 1919م ثورة الإقطاعيّين والأغنياء وأن الديمقراطية كانت ديمقراطية الملاّك والرأسماليّين. والآن: هل سيكون حظ أمريكا أفضل من حظ بريطانيا في تصدير الديمقراطية؟ وهل ستنجح في ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي؟ وهل ستنجح فيما فشلت بريطانيا فيه؟ من الجليّ أن حظوظ أمريكا في ترسيخ الديمقراطية أقل من بريطانيا وذلك لعدّة أسباب: الأول: ضعف مصداقية أمريكا واهتزاز الثقة بها نتيجة دعمها للأنظمة الاستبدادية ووقوفها إلى جانب اسرائيل خلال نصف القرن الماضي، وعدم التصديق بأنها جادة في هذا التوجّه الديمقراطي، والميل إلى اعتبار هذا التوجّه ورقة للضغط على الحكومات العربية لتحقيق مآرب سياسية معيّنة.
الثاني: اهتزاز الثقة بالحكام الذين توجّهت إليهم أمريكا بمشاريعها، فهؤلاء الحكام لديهم سجل حافل بالاستبداد والظلم ومعاداة الديمقراطية، فكيف يمكن أن يصبحوا من دعاتها بين ليلة وضحاها؟!!! لا أحد يصدّق ذلك.
الثالث: من السنن المعهودة أن يأتي التغيير بمبادرة الشعوب والجماهير، وهذا ما حدث حين عرفت مصر والعراق الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى، فجاءت تلك الديمقراطية بعد ثورتين شعبيّتين عرفتهما مصر والعراق، والآن تأتي الدعوة إلى تطبيق الديمقراطية من أمريكا والحكام وهو خلاف المعهود والمتوقّع.
إن الأسباب السابقة تجعلنا نرجّح بأن الفشل سيكون مآل دعوة أمريكا إلى تطبيق الديمقراطية في العالم العربي، وسيترتّب على هذا الفشل المزيد من التجزيء للمنطقة، وسيترتّب عليه المزيد من ظهور الفسيفساء العرقية والمذهبية والطائفية.