وصل نتنياهو إلى الحكم إثر انتخابات عام 1996م في إسرائيل، فغيّر مقولة الأرض مقابل السلام إلى الأمن مقابل السلام وبهذا أحدث تغييراً نوعياً في المفاوضات، ثم فتح النفق الذي يمر تحت الأقصى المبارك في سبتمبر/أيلول من عام 1996م متحدياً مشاعر المسلمين، ومستخفّاً بالقيادة الفلسطينية التي هي طرف رئيسي في تحديد أي شيء يتعلق بالقدس حسب اتفاقات أوسلو.
وبعد قليل من توقف معركة النفق بدأ ببناء مستعمرة في جبل أبوغنيم في آذار/مارس من عام 1997م هادفاً تغيير وضع القدس وتوسيع الاستيطان اليهودي فيها، وقد صرّح قبل ذلك عدة مرات بأن القدس ستبقى موحدة ولن تتجزأ وستكون العاصمة الأبدية لإسرائيل وكانت إحدى المرات التي أعلن فيها ذلك في الكونغرس الأمريكي حيث ألقى أول خطاب له بعد انتخابه رئيساً للوزراء وكان تجاوب المجلس معه كبيراً حيث صفّق له النواب والشيوخ وقوفاً لعدة دقائق.
ثم جاء بعجيبة أخرى وهي تخلّيه عن اتفاقات أوسلو واعتبارها غير صالحة للمرحلة الحالية، فأبدى رغبته في تجاوزها والانتقال إلى المرحلة النهائية من المفاوضات.
وقد سرّبت أوساطه تصريحاً أفاد بأن إسرائيل ستعطي الحكم الذاتي فقط 40% من أرض الضفة الغربية ناقضة بذلك بعض بنود اتفاق أوسلو.
وكانت ذروة الانحدار في الموقف قيام إحدى المستوطنات اليهوديات بلصق صور على أبواب المحلات في مدينة الخليل تحقّر الرسول الكريم وتستهزئ بالقرآن الكريم.
وقد استمر نتنياهو في إصدار التشريعات والقرارات التي تلتهم الأرض، فقد اتخذ الكنيست الإسرائيلي قراراً بتكريس الاحتلال الإسرائيلي للجولان في 23/7/1997م، وكان نتنياهو ضمن الموافقين عليه في القراءة الأولى.
كما اتخذت بلدية القدس قراراً ببناء مستوطنة جديدة في رأس العامود بتاريخ 25/7/1997م.
والسؤال الآن: ما الذي تعبّر عنه مواقف نتنياهو؟ هل تعبّر عن شخصه؟
أم تعبّر عن حزب الليكود؟ أم تعبّر عن موقف الشعب اليهودي؟
الحقيقة إن مواقف نتنياهو تعبّر عن موقف غالبية الشعب الإسرائيلي وذلك لأن مواقفه التي ينفذها الآن طرحها في برنامجه الانتخابي، وعندما تغلّب على منافسه شمعون بيريز فاز بأغلبية بسيطة.
لكن يجب أن نضع في الاعتبار بأن كل عرب الأرض المحتلة الذي يحق لهم التصويت وقفوا إلى جانب بيريز مما يعني أن نتنياهو حصل على أغلبية كبيرة من أصوات اليهود الذين دخلوا الانتخابات.
وأما موقف الولايات المتحدة فلا يقل غرابة عن موقف اسرائيل فقد دخلت مفاوضات مدريد راعية للسلام، ويفترض أن يكون موقفها حيادياً وضاغطاً على اسرائيل من أجل تنفيذ الاتفاقات التي وقّعت بشهادتها.
لكن نجدها عكس ذلك منحازة إلى اسرائيل فقد استخدمت حق النقض عدة مرات في مجلس الأمن من أجل الحيلولة دون إدانتها في فتح النفق وفي بناء مستوطنة جبل أبي غنيم.
وبلغ الانحياز ذروته عندما اتخذ الكونغرس قراراً في يونيو/حزيران الماضي باعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وأمر بتخصيص مائة مليون دولار لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب وبناء سفارة جديدة في القدس.
وهذا الأمر هو تأكيد لقرار سابق صادر عن مجلس النواب والشيوخ في 24 أكتوبر/تشرين الأول/1995م يعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل ويأمر بنقل السفارة الأمريكية إليها في موعد أقصاه 31/5/1999م، ويأمر وزير الخارجية بتقديم تقرير نصف سنوي حول التقدم الذي يتم إحرازه في نقل السفارة.
والسؤال الذي يفرض نفسه على ضوء الانحيازات السابقة هو: بماذا نعلّل مواقف الولايات المتحدة المتطابقة مع مواقف إسرائيل؟ يمكن تعليلها بالأمور التالية:
1- ضعف الموقف العربي الجماعي ومعرفتها بأن انحيازها إلى اسرائيل لا يكلفها أي ثمن أو أية خسارة.
2- تجاوب المجتمع الأمريكي مع الأوهام التوراتية التي تقوم على ارتباط اليهود بالقدس، وتصديق المقولات اليهودية التي تدعو إلى التسريع بنزول المسيح عليه السلام من خلال التسريع بسيطرة اليهود على فلسطين والقدس.
3- سيطرة اللوبي اليهودي على الكونغرس وعلى الإدارة الأمريكية، وإذا كانت فضيحة ووترغيت أسقطت نيكسون فإن اللوبي اليهودي يملك الآن عشرات الفضائح التي يستطيع من خلالها إسقاط كلينتون مما يجعله آلة طيّعة في يد اليهود وأمانيهم وتطلعاتهم.
والسؤال الآن: ما الحقائق المهمة التي يمكن أن نقرأها ونستنبطها من خلال الموقفين اليهودي والأمريكي؟
إسرائيل تريد الأرض كل الأرض، فهي تتوسع في الاستيطان في القدس، وتتراجع عن اتفاقات أوسلو، وتلوّح بأنها ستعطي الطرف الفلسطيني في حدود 40% من الضفة الغربية، وتجمد المسار السوري، وترفض القبول بمبدأ إعادة الجولان، وتهدد بأنها ستحتل مرة ثانية مدن الحكم الذاتي، تفعل كل ذلك انطلاقاً من أوهام توراتية تقوم على أن فلسطين أرض الميعاد، وأن أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل، وأن القدس عاصمة اليهود التي سيجلس عليها أحد أحفاد داود عليه السلام وسيحكم العالم من خلالها.
لا قيمة للمعاهدات والاتفاقات عند حكام إسرائيل، فقد ضرب نتنياهو عرض الحائط بكل ما وقّعه إسحاق رابين وشمعون بيريز، وتخلّى عن كل ما وعدا به، وأخلّ بكل ما تفاهما عليه مع الفلسطينيين في اتفاق أوسلو ومع السوريين بخصوص الانسحاب من الجولان، مع أنه يجب أن يبقى ملتزماً بكل ذلك، لأن ذلك أدنى مبادئ التعامل الدولي، فالاتفاقات السابقة كانت باسم دولة إسرائيل وهو الآن ممثل لدولة إسرائيل، ومع ذلك لا تجد أدنى احترام لأية توقيعات سابقة، وإن نقض المواثيق والمعاهدات يأتي تصديقاً لقول الله تعالى:
(فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية) (المائدة،13)
فالذي ينقض العهد مع الله حري به أن ينقض العهد مع العباد.
إسرائيل تريد أن تكون لها السيادة والهيمنة على المنطقة بالدرجة الأولى، لذلك احتفظت بقوتها النووية ولم توقع على اتفاق تحريم التجارب النووية ولم تخضع مفاعلاتها النووية للتفتيش الدولي، وكانت إحدى نقاط الخلاف بين سورية وإسرائيل أثناء مفاوضات واشنطن رغبة إسرائيل في تحديد أعداد الأسلحة وأنواعها التي يجب أن تمتلكها سورية.
أمريكا تريد أن تبقى إسرائيل هي الدولة الأقوى المهيمنة على دول المنطقة وشعوبها لذلك فهي تمدها بكل أنواع الأسلحة المتطورة، والكمبيوترات العملاقة، وتعطيها كل ما تحتاجه، وتطوّر معها أنواعاً من الأسلحة، وتساعدها في إطلاق أقمار صناعية للتجسس على الدولة العربية، وتغض الطرف عن كل نشاطاتها النووية، وتستخدم حق النقض لصالحها مع مخالفة ذلك لالتزاماتها السابقة.
والآن على ضوء ذلك كله، فما الواجبات الملقاة على القيادة الفلسطينية للحكم الذاتي وعلى الفصائل والقيادات الإسلامية في المرحلة القادمة؟
هذه بعض معالم صورة الواقع الذي تتردى فيه القضية الفلسطينية، وهذه بعض مؤامرات اليهود على الأقصى المبارك: أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى الرسول محمد، ومنطلق معراجه إلى السماء، وموضع صلاته بالأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وهذه بعض الواجبات الملقاة على الأمة الإسلامية في هذه المرحلة من أجل إيقاف اليهود عن تحقيق أحلامهم المريضة، فهل هي فاعلة ذلك؟ نعم ستفعل ذلك بإذن الله، وستقوم بواجباتها كما عوّدتنا على ذلك في تاريخها المجيد.
مقال آخر عن اتفاقات الحكم الذاتي بين منطق القطر ومنطق الأمة