يلحظ الدارس والمتابع لتطورات الحضارة الغربية وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ارتفاع صوت المروّجين لخلودها والمنادين بحتمية انتصارها، وأبرز هذه الأصوات التي روّجت لذلك فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”.
ويلحظ الدارس كذلك ترويج مقولات “العولمة” التي يصورونها القدر الذي لا مفر منه، وأن الخير كل الخير في ولوج قطارها وإلا أصبحنا خارج التاريخ، ويرافق تلك الجلبة من الأصوات غياب الحديث عن أية مشاكل أو أزمات تعاني منها الحضارة الغربية، وكأنها أصبحت معافاة تماماً بعد انهيار الشيوعية، فهل هذا صحيح؟ وما هو الأصل في نشوء الحضارات وسقوطها؟
تمر الحضارات بعدة مراحل منها: النشوء ثم الارتقاء ثم التدهور والاندثار، وإن أبرز عامل في تكوّن الحضارات تلبيتها لعناصر الفطرة الإنسانية، وإن أبرز عامل في تأزمها وانهيارها هو تصادمها مع الفطرة، وهذا ما سنوضحه في عدد من الحضارات أبرزها الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية في طوريها القديم والحديث.
حقّقت الحضارة الإسلامية كل مطالب الفطرة الإنسانية لأن الإسلام لبّى الفطرة، قال تعالى:
(فأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عليها لا تبديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلك الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمونَ) (الروم،30).
وإنّ المتفحص في الآيات والأحاديث يجد أنّ أبرز مظاهر الفطرة التي أشار إليها الإسلام هي: التدين، والتعلم، والشهوات المتمثلة بالنساء والأموال والزروع إلخ… أما التدين فقد عبّر القرآن الكريم عن فطريته بأنّ الإنسان عرف ربّه وهو في عالم الذر في كيفية نجهلها، قال تعالى:
(وإذْ أخذَ ربُّكَ مِن بَني آدمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَتَهُم وأشْهَدَهُم على أنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قالوا بَلَى، شَهِدْنا، أَن تقولوا يومَ القيامةِ إنّا كُنّا عن هذا غافِلينَ) (الأعراف،172).
وقد ذكرت الأحاديث الشريفة بأن كل مولود يولد على الفطرة أي على التوحيد، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
“ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه” (رواه البخاري ومسلم).
وقد أشار القرآن الكريم إلى فطرة التعلّم عند الإنسان بأن الله علّم آدم الأسماء فتعلمها، في حين أن الملائكة عجزوا عن معرفة الأسماء، لذلك استحق آدم u الخلافة نتيجة قابليته للتعلّم، قال تعالى:
(وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلها ثم عَرَضَهُم على الملائكةِ فقال أنبِئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقينَ. قالوا سبحانكَ لا علمَ لنا إلاّ ما علَّمْتَنا إنّكَ أنتَ العليمُ الحكيمُ . قال يا آدمُ أنبِئْهُم بأسمائِهِم فلمّا أنبَأَهُم بأسمائهم قال أَلَمْ أَقُلْ لكم إنّي أعلمُ غيبَ السماواتِ والأرضِ وأعلمُ ما تُبْدونَ وما كنتم تكتمونَ) (البقرة،30-33).
وقد أقر القرآن الكريم بفطرية بعض الشهوات كحب المال والنساء والآباء والأبناء والقوم والمساكن إلخ… فقال تعالى:
(زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشهواتِ مِنَ النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهبِ والفضَّةِ والخيلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والحرثِ ذلك مَتاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عندَهُ حُسْنُ المآبِ) (آل عمران،14).
وقال تعالى:
(وتأكُلونَ التُراثَ أكلاً لَمّاً. وتُحِبّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر،19-20).
وقال تعالى:
(قُلْ إن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرَتُكُم وأموالٌ اقْتَرَفْتُموها وتِجارَةٌ تخشونَ كَسادَها ومساكِنُ تَرْضَوْنها أَحَبَّ إليكم مِنَ اللهِ ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حتى يأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقينَ) (التوبة،24).
وقد وضع الإسلام البرامج التي تحقق عناصر الفطرة وتلبي نوازعها، ففي مجال التدين بيّنت آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة صفات الله التي استحق من أجلها العبادة I كالعلم والقدرة والحكمة والخبرة إلخ…
وأوجبت التوحيد وحرّمت الشرك، وفصّلت أمور العبادة كالصلاة والصيام والحج إلخ… ووعدت المسلم الذي يؤدي عباداته بالثواب الجزيل، وأوعدت المسلم الذي يعصي ربه بالعذاب الشديد، ووضحت أمور الغيب كالجنة والنار والملائكة والشياطين، ورغّبت بالجنة وخوفت من النار إلخ…
وفي مجال التعلم حث الإسلام على التفكير والتدبر، وامتدح ذوي الألباب والعقول، واحترم العلماء واعتبرهم ورثة الأنبياء، وحرّم الخمر وأوجب لها الحدّ لأنها تذهب بالعقل، ويكفي للتدليل على أهمية فطرة التعلّم في الإسلام إلى أنّ أول أمر أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالقراءة التي هي بداية التعلم حيث قال له جبريل في غار حراء في أول لقاء بينهما “اقرأ” ثلاث مرات، ثم كانت أول آية في القرآن الكريم قوله تعالى:
(اقْرَأْ بِاسْمِ ربِّكَ الذي خلقَ. خلقَ الإنسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وربُّكَ الأَكْرَمُ. الذي عَلَّمَ بِالقلمِ. عَلَّمَ الإنسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (القلم،1-5).
وفي مجال الشهوات أباح الإسلام الزواج وحض عليه، وأباح اقتناء الأموال وأباح التجارة والصناعة، وأباح امتلاك عروض التجارة والمساكن والزروع والثمار إلخ… وقد أصدر التشريعات التي تضبط ذلك وتحدّد حلاله وحرامه وصوره، والأهم من ذلك أنّ الإسلام اعتبر قضاء تلك الشهوات جميعها عبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطباً الصحابة: “في بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم:
“إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل” (رواه أحمد).
ومن مظاهر تلبية الفطرة أنّ تكاليف الإسلام جاءت حسب الوسع فقال تعالى:
(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها) (البقرة،286).
وقال تعالى:
(فاتَّقوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُم) (التغابن،16).
وقد جاءت الفروض بالحد الأدنى الذي هو في وسع كل إنسان، فكانت الصلاة المفروضة خمس صلوات، وكانت الزكاة ربع العشر من المال، لكن الحد الأعلى مفتوح بحسب إرادة المسلم ورغبته، فهناك السنن المؤكدة وغير المؤكدة لكل صلاة، وهناك قيام الليل، وهناك صلاة الضحى، وسنّة الوضوء إلخ… وهناك تصدّقُ المسلم الذي يمكن أن يصل إلى ثلث ماله.
ومما يشير إلى مراعاة الإسلام للفطرة وجود الرخص كرخصة التيمم وقصر الصلاة من أجل رفع الحرج عن الأمة، قال تعالى:
(وما جعلَ عليكم في الدينِ مِنْ حَرَجْ مِلَّةَ أبيكُم إبراهيمَ هو سَمّاكُمُ المسلمينَ مِن قبلُ) (الحج،78).
وقد أشار علماء الأصول وأبرزهم الشاطبي إلى أنّ استقراء جميع آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تبيّن أنّ جميع الأنبياء والرسالات جاءت لتحقيق خمسة أمور هي: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وسمّاها الضروريات واعتبر أنّ بقية أمور الدين تدور حول تلك الضروريات وسمّاها: الحاجيات والكماليات، وإذا تأملنا الضروريات الخمس التي اعتبرها الشاطبي مقاصد الشريعة والتي جاءت الرسالات لحفظها وتحقيقها نجد أنها مطابقة لأمور الفطرة التي تتطلبها النفس البشرية وهي: التدين والتعلم والشهوات إلخ…
رأينا فيما سبق كيف لبّت الحضارة الإسلامية مطالب الفطرة، وقد استمرت الحضارة الإسلامية لعدة قرون بصورة لم تعهدها البشرية في الحضارات الأخرى بسبب تلبية الإسلام لمطالب الفطرة، وقد تمزقت أوروبا في القرون الوسطى قديماً وانهار الاتحاد السوفييتي حديثاً بسبب تصادم حضارتيهما مع الفطرة وهذا ما سنوضحه في السطور التالية.
لعبت الكنيسة دوراً مميزاً في أوروبا في العصور الوسطى، وكانت مبادئها وتعليماتها ذات دور فاعل فيها، وأبرز مبادئها التي ناقضت الفطرة فيها: نظرتها إلى الشهوات والجسد والدنيا من جهة، وحكمها على بعض الآراء العلمية وأصحابها بالهرطقة والزندقة والكفر من جهة ثانية.
احتقرت الكنيسة الشهوات والجسد والدنيا، فاعتبرت الشهوات دنساً يجب الترفع عنه، واعتبرت الجسد سجناً للروح لذلك يجب تعذيب الجسد وقتله من أجل انطلاق الروح، كما اعتبرت الدنيا عقبة في طريق الآخرة لذلك أهملت الدنيا واهتمت بالآخرة وحدها، وهي قد ناقضت الفطرة في كل نظرياتها تلك، وكانت لنظرياتها تلك أسوأ النتائج على العلاقة بين جماهير الناس وبين الدين ورجاله.
كذلك أخطأت الكنيسة مع علماء أوروبا الذين توصلوا إلى حقائق ونظريات نتيجة جهود عقلية وعلمية قاموا بها واستفادوا بعضها من حضارتنا الإسلامية، لكن الكنيسة اعتبرت تلك الحقائق والنظريات هرطقة وزندقة لأنها تخالف بعض مقولات توارثتها واعتمدتها المجامع الكنيسية، وحاكمت العلماء على أقوالهم ونظرياتهم وسجنت بعضهم وأعدمت بعضهم الآخر. إنّ الأزمة التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى والتي أدت بها إلى الانفجار والثورات وإلى إبعاد الدين المسيحي ورجالاته عن أي مجال من مجالات الحياة كان أحد أسبابها مخالفة رجال الكنيسة للفطرة التي تجلت في احتقار الكنيسة للشهوات والدنيا والجسد من جهة وإلى إنكارها بعض الحقائق العلمية من جهة ثانية.
أما الاتحاد السوفييتي الذي طبق النظرية الماركسية فقد أقر الإلحاد وأنكر وجود إله ونظر إلى الإنسان نظرة مادية بحتة وهذا مخالف لفطرة الإنسان التي تقوم على التدين والتوجه إلى عبادة إله، فقد عرفت كل المجتمعات البشرية التدين والعبادة وأماكن العبادة، والأرجح أنّ الاتحاد السوفييتي كان أول دولة رعت الإلحاد بشكل رسمي، وصادم الاتحاد السوفييتي – أيضاً – غريزة حب التملك عند الإنسان، واعتبرها مكتسبة وليست فطرية، لذلك انتزع ستالين من الفلاحين مواشيهم ومزارعهم وأراضيهم وحوّلها إلى ملكية جماعية، فثار الفلاحون عليه ودافعوا عن ممتلكاتهم وسقط 12 مليون قتيلاً في هذه المواجهة مع الحكومة الشيوعية.
لا شك أنّ سقوط الاتحاد السوفييتي ساهمت فيه عدة عوامل داخلية وخارجية ولم يكن نتيجة عامل واحد، لكن من المؤكد في الوقت نفسه أنّ تصادم الاتحاد السوفييتي مع بعض عوامل الفطرة كان أحد أهم العوامل في سقوطه وعدم استمرارية وجوده.
والآن: ما هو الوضع في الحضارة الغربية؟ ألا توجد فيها توجهات وممارسات مناقضة للفطرة؟ عرفت الحضارة الغربية العلمانية التي جاءت بعد التصادم الذي وقع بين رجال الكنيسة ورجال العلم في العصور الوسطى، وأبرز حقيقة قامت عليها تلك العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وقد سمّى الدكتور عبد الوهاب المسيري تلك العلمانية بالعلمانية الجزئية، لأن تطورات تاريخية بعد ذلك حوّلت تلك العلمانية الجزئية إلى علمانية شاملة، لا لتفصل الدين عن الدولة فقط، وإنما لتفصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية جميعها عن الدولة وعن جوانب الحياة العامة والخاصة كافة، أي أنها تفصل سائر القيم عن الطبيعة والإنسان وتنـزع عنهما أية قداسة، بمعنى أنه يحكم على الاقتصاد بمقدار ما يحققه من أهداف اقتصادية ربحية بغض النظر عن أية قيمة دينية وأخلاقية وإنسانية، وقس على ذلك بقية المجالات الحياتية من سياسة وعلم وجسد إلخ…
وقد تبلورت العلمانية الشاملة في الفلسفة الداروينية الاجتماعية التي تذهب إلى أنّ العالم مادة واحدة صدر عنها الإنسان والطبيعة والحيوان، وهذه المادة خالية من الغرض والهدف والغاية، وهذا يعني أن كل الأمور نسبية، فما هو حرام اليوم قد يصبح حلالاً غداً وبالعكس، وهذا يعني أنه لا حاجة إلى أية قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية إلخ…، وهذا يعني أنه ليس هناك عالم غيب، وليس هناك شيء مقدّس، وليس هناك تديّن، لأن المادة لا تعرف كل ذلك.
وتقر الداروينية الاجتماعية بالتطور كقيمة وحيدة تحكم الحياة، وتقر بالصراع وسيلة تحكم علاقات المخلوقات كلها، لذلك فالعالم ساحة قتال بين ذئاب، والقيمة الوحيدة التي تعترف بها الداروينية الاجتماعية هي القدرة على الصراع والبقاء، وهذا ما يلقي الضوء على قيام حربين عالميتين في أقل من نصف قرن.
والآن على ضوء هذا التطور في الحضارة الغربية من العلمانية الجزئية التي كانت تفصل الدين عن الدولة إلى العلمانية الشاملة إلى الداروينية الاجتماعية التي أصبحت تنكر أية قيم دينية أو إنسانية في أي مجال من مجالات الحياة البشرية، وتعتبر أن المادة هي الأصل والحقيقة في كل شيء وفي كل مجال، وعلى ضوء أنّ تلبية عناصر الفطرة أصل في وجود الحضارات واستمرارها، وأنّ غياب التلبية أصل في أزمتها وانفجارها، وكما لاحظنا فإنّ الحضارة الغربية تتجه إلى تغييب المقدس وإلى إنكار فطرة التدين في حياة الإنسان،
فهل نستطيع أن نقول إنها بداية أزمة وجود لا تقل عن أزمة الاتحاد السوفييتي؟
وهل ستؤدي إلى انفجار الحضارة الغربية؟
هذا ما نرجحه على ضوء مسيرة الحضارات من جهة وعلى ضوء إقرارنا بحقيقة وجود الفطرة من جهة ثانية.