مقال منقول عى جريدة الشرق الأوسظ للكاتب إيهاب الحضري
ضم إسرائيل لـ الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح، ليس إلا خطوة صغيرة ضمن خطة شاملة، لا تستهدف فلسطين وحدها، بل تمتد لتشمل مواقع في لبنان والأردن وسورية، ومن ضمن ما حاولت إسرائيل تسجيله كموقع تراثي إسرائيلي، هو طريق الحج الذي يمتد من مكة إلى القدس.
أمر قد يبدو سورياليا، لكن هذا التحقيق يلقي الضوء على محاولات إسرائيلية مدعومة دوليا، للسيطرة على مواقع عربية بأساليب لا تخطر على بال!
عندما اتخذ نتنياهو قراره بضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح إلى المواقع التراثية الإسرائيلية، أكد أن بقاء الإسرائيليين لا يعتمد فقط على القوة العسكرية ولا المناعة الاقتصادية، بل يتحقق من خلال الارتباط بالماضي.
وهي وجهة نظر ثقافية عادة ما نغفلها نحن العرب في تناولنا للصراع العربي الإسرائيلي، حيث نركز فقط على الشقين السياسي والعسكري، متناسين أن الصراع حضاري في المقام الأول.
الحكومة الإسرائيلية أشارت إلى أن ما حدث يمضي في سياق خطة لترميم 150 موقعا تراثيا توراتيا لخلق ارتباط مباشر بين شمال البلاد وجنوبها! وهو اتجاه ليس جديدا على الإطلاق، كما أن ما حدث أخيرا لن يكون خطوة أخيرة.
ووفقا لهذه الرؤية الإسرائيلية (الحضارية)، يدخل مسجد بلال بن رباح دائرة الصراع، لأنه معروف في الفكر التوراتي باسم قبر راحيل.
الأمر ذاته ينطبق على الحرم الإبراهيمي، الذي يحاول الصهاينة إعادة موقعه إلى ما كان عليه. فوفقا للروايات التاريخية، كان الموقع يضم مقابر الأنبياء، وفي السنة الرابعة قبل الميلاد اكتمل إنشاء سور حوله لتأمر الملكة هيلانة بعدها بثلاثة قرون ببناء سقف له، ثم قام الفرس بهدمه ليعيد الرومان إعماره وينشئوا فيه كنيسة.
وعندما دخل المسلمون فلسطين قاموا ببناء الحرم الإبراهيمي في الموقع ذاته عام 15 هجرية، لكن الصليبيين استخدموه ككاتدرائية لمدة تسعين عاما، حتى أعاد صلاح الدين الأيوبي الأوضاع إلى ما كانت عليه. ومنذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، بدأ استهدافه من الإسرائيليين.
المحاولات مستمرة ومتعددة الأساليب، تبدأ من مجرد تغيير الأسماء وتنتهي بالتزييف الكامل!.. الاستعراض التالي يرصد بعض الأماكن التي استهدفتها إسرائيل بمختلف الوجوه، لأنها ستكون مهددة، غالبا، في المراحل القادمة، ولن تخرج عن قائمة ال-150 موقعا التي أشارت إليها الحكومة الإسرائيلية.
أقام الإسرائيليون مستعمراتهم، خلال السنوات الماضية، في مواقع درست بدقة، لتقود إلى القضاء على التراث الفلسطيني. فقد اختاروا مناطق أثرية فلسطينية وأنشأوا مستعمراتهم عليها، وقاموا بتغيير أسمائها، معتمدين على أن الزمن كفيل بالباقي. وهنا بعض النماذج للمستعمرات التي أنشئت على مواقع أثرية، ومنها:
«كوخاف هشاحر»: وتعني «نجمة الصباح»، أقيمت عام 1975 على أراضي دير جرير وكفر مالك، وبها قبر مسيحي أثري لكاهنة كانت تدعى الست زهراء.
«شاني شومرون»: أقيمت عام 1978 جنوب محطة سكة حديد المسعودية، قرب سبسطية، باعتبارها عاصمة مملكة إسرائيل التاريخية.
«كفار تفوح»: أنشئت عام 1978 على أراضي ياسوف وإسكاكا بسلفيت، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مدينة بتواح، التي ذكرت بسفر «يشوع» في العهد القديم.
«شيلوا»: أنشئت عام 1978 على أراضي قريوت وحالوا وتر مسعيا، والموقع مهم من الناحية الأثرية، ويحتوي على عدد من الآثار القديمة، كما تم اكتشاف مناطق أثرية مهمة بهذه المنطقة، لكن المستوطنين أحاطوها بسياج كبير.
«علمون»: أقيمت عام 1983 بالقدس المحتلة، وبها خربة قديمة تدعى خربة علميت، تضم جدرانا مهدومة وأحواضا منقورة في الصخر وأساسات كنيسة مرصوفة بالفسيفساء وقناة ومساكن في الكهوف وينابيع مياه تاريخية، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى بلدة علمون الكنعانية.
«حبلة»: أثناء قيام سلطات الاحتلال بشق طريق حولها، تمت مصادرة مقام «أولاد العوام»، ودمرت الجرافات عددا من قبور الصالحين.
«عوفرة»: تحمل اسم مدينة كنعانية تاريخية، لكن الإسرائيليين ادعوا أنها مدينة إسرائيلية أقيمت منذ عهد الهيكل الثاني، وقام الرومان بضمها إلى مملكة يهودا!
* تزوير دولي
* في 6 يونيو (حزيران) 2000، أرسل يوسي ساريد، وزير التعليم الإسرائيلي حينها، رسالة إلى مركز التراث العالمي، بوصفه رئيس اللجنة الوطنية الإسرائيلية للإيكوموس. تضمنت الرسالة أسماء 29 موقعا مرشحا للتسجيل في قائمة التراث العالمي، بوصفها مواقع تراثية إسرائيلية.
من بين هذه المواقع، كان النموذج الأكثر استفزازا، هو طريق الحج من القدس إلى مكة!.. إضافة إلى وادي الأردن وخليج العقبة، ومواقع أخرى عديدة تقع خارج نطاق فلسطين التاريخية كليا.
ضمت القائمة: القدس وعكا ومسعدة وميكا تشيم (النقب الجنوبي)، وهذه المواقع الأربعة كانت مرشحة للتسجيل في العام التالي، كبداية لتسجيل المواقع الباقية، وهي:
وقد خالفت إسرائيل شروط الاتفاقية الدولية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، بتجنبها ذكر الأسماء التاريخية التي كانت معروفة ومستعملة في سجل المواقع والمباني التاريخية قبل سنة 1948.
في القسم الثاني من القائمة (المواقع متعددة القوميات)، اقترحت إسرائيل تسجيل خمسة مواقع، منها: وادي الأردن، ونهر الأردن ومنابعه، ووادي عربة، وخليج العقبة.
وفي القسم الثالث (مواقع المجموعات)، طالبت بضم: التل التوراتي، والحصون الصليبية، والقصور الأموية، والأديرة الصحراوية، والديكابولس، والفنون الصخرية، ومدن الموانئ، ويلاحظ أن المواقع المقترحة في المجموعتين السابقتين تنتشر في عدد من الدول، كفلسطين والأردن وسورية ولبنان.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، ففي القسم الرابع (الطرق الحضارية)، اقترح الوزير الإسرائيلي تسجيل: «طريق الحج من القدس إلى مكة، وخط القطار العثماني، وطريق البخور الساحلي»، في قائمة التراث العالمي.
فلسطين أعدت وقتها مذكرة بعثت بها إلى اليونسكو، وأكدت فيها أن إسرائيل عمدت إلى مغالطات عديدة، أشار حمدان طه، مدير عام دائرة الآثار في السلطة الوطنية الفلسطينية، إلى بعضها، ومنها: «تغطي خارطة إسرائيل المرفقة مع التقرير حدود فلسطين الانتدابية، ولا تشير إلى الحدود مع الأراضي الفلسطينية، سواء بموجب قرار التقسيم رقم 181، أو قرار 242 لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة المحتل عام 1967، أو الاتفاقات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وتنفي الخارطة الوجود الجغرافي الفلسطيني على أرض فلسطين!». كما أكدت المذكرة أن الاستناد إلى التوراة والمصادر اللاهوتية، هو أمر محل نقد وإعادة تقييم شاملة من قبل البحث الأثري الحديث، لأن الرؤية التاريخية القديمة التي تشكلت على قاعدة الفهم اللاهوتي الديني، اتسمت بانحياز أيديولوجي واضح لفترات معينة، وإهمال مقصود لدلائل الفترات الأخرى.
العرب تصدوا لهذه المحاولة التي تعتبر واحدة من حلقات السطو على التاريخ، وتمكنت مصر والمغرب فعليا من تجميد مناقشة الطلب الإسرائيلي، غير أنه كان تجميدا مؤقتا، إذ إن إسرائيل نجحت بعد ذلك في تسجيل موقعين!
* والقدس أيضا
* محاولة أخرى استهدفت مدينة القدس ذاتها، تكشفت تفاصيلها أثناء اجتماع خبراء الآثار العرب في القاهرة في أبريل (نيسان) 2004. فإسرائيل كانت تخطط لرفع القدس من قائمة التراث العالمي!.. وكأن ما يحدث في الأقصى من تدميرات تحتية، بحجة البحث عن آثار يهودية، لم يعد كافيا!
بدأت القصة خلال اجتماع المؤتمر العام رقم 32 لمنظمة اليونسكو، الذي عقد عام 2003، حيث تقدم مندوب أميركا، وأطراف أخرى، بتوصية (مستغربة) لتشكيل لجنة فنية لمعاينة حالة التراث الثقافي لمدينة القدس وأسوارها!.. إسرائيل كانت تتصدى دائما، وبمعاونة أميركية، لفكرة تشكيل أي لجان فنية يمكنها أن تفضح ممارساتها تجاه التراث الفلسطيني، لكن التوصية هذه المرة كانت أميركية، ولم تلق ردا إسرائيليا سلبيا!.. وتم تشكيل اللجنة برئاسة مدير مركز التراث العالمي، ضمت مندوبين من المنظمة الدولية للمباني التراثية، والمنظمة العالمية لصيانة وترميم المباني التراثية، وجيوفاني بوكاردي، رئيس وحدة المواقع التراثية العربية على قائمة التراث العالمي، إضافة إلى خبراء آخرين.
وكان من المفترض أن تضم اللجنة عالم الآثار أوليك جرابار، غير أن السلطات الإسرائيلية رفضت استقباله، لأسباب أمنية (؟!!)، رغم أن جرابار كان الوحيد الذي يعتبر متخصصا في القدس من بين أعضاء اللجنة. وصلت البعثة إلى القدس نهاية فبراير (شباط) 2004، وعملت لمدة عشرة أيام. وتشير المذكرة الأردنية التي أعدها عبد السميع أبو دية، المسؤول بدائرة الآثار الأردنية، إلى أن المجموعة العربية في اليونسكو احتجت لدى مدير عام المنظمة، لأن البعثة لم تضم أي خبير بالآثار الإسلامية، مما قد يؤدي إلى تحيز. وأضافت المذكرة أن المجموعة العربية عقدت اجتماعا في باريس نهاية يناير (كانون الثاني) 2004، أشار فيه رئيس المجموعة، مندوب سلطنة عمان، إلى أنه يشاع في أروقة المنظمة أن إسرائيل تحاول شطب مدينة القدس من قائمة التراث العالمي! وبناء على ذلك، تم تشكيل لجنة عربية مصغرة اجتمعت بمدير اليونسكو وأطلعته على تحفظات المجموعة العربية على تشكيل البعثة لعدم وجود خبير متخصص بالآثار الإسلامية، كما أشارت إلى الموقف السلبي لرئيس البعثة، لعدم موافقته على اقتراح بضم خبير في الآثار الإسلامية، وهو عبد العزيز بشاوش، إلى أعضائها. على الجانب الآخر، كانت البعثة تؤدي عملها في القدس وسط أجواء مريبة، فقد طلبت إجراء تعديلات على البرنامج المعد سلفا ليشمل موضوعين جديدين، هما أسطح البيوت في القدس القديمة، وبركة حزقيا. وهو الطلب الذي أكد حمدان طه في تقريره عن الزيارة أن دائرة الأوقاف الإسلامية رفضته، لأن هذين الموضوعين يعبران عن أفكار إسرائيلية حول هاتين القضيتين سبق رفضها.
وأوضح المسؤولون الفلسطينيون لأعضاء الوفد ما تعانيه آثار المدينة من أخطار، نتيجة الحصار والاعتداءات المتتابعة، والتأثير السلبي لذلك على إمكانية الترميم والحفاظ على المباني التاريخية، وخصوصا في المنطقة المحيطة بالحرم.
وأشاروا إلى المخاطر الناجمة عن استمرار أعمال التنقيب السرية في منطقة الحرم وتأثيرها على أساسات المباني، وضربوا مثالا بالانهيار الذي كان قد حدث في توقيت مقارب بالممر الموصل إلى باب المغاربة (قرار ضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال الذي صدر أخيرا، تزامن مع تصريحات فلسطينية بحدوث انهيار جديد في أحد المواقع بالحرم القدسي).
التقرير الذي أعده حمدان طه لم يتضمن انطباعات سلبية عن زيارة البعثة، ويرجع ذلك إلى أنه لم يصدر عن أعضائها ما يفصح عن نيتهم.
الدكتورة ريتا عوض ألمحت في كلمتها التي ألقتها في مؤتمر خبراء الآثار العرب، كمندوبة عن المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، إلى وجود مؤامرة، حيث قالت: «ساد شعور له ما يبرره لدى المجموعة العربية في اليونسكو بأن إسرائيل ما وافقت على استقبال هذه البعثة بعد سنوات من رفض بعثات اليونسكو، إلا لوجود ضمانات من المنظمة الدولية، بأن يكون تقرير البعثة مواتيا لمطالب إسرائيل».
وأشارت بدورها إلى عدم وجود أي خبير عربي، أو مختص بتراث المنطقة ضمن أعضاء هذه البعثة. الشك تحول إلى يقين، حسب تأكيد ريتا عوض، بعد لقاء السفراء العرب رئيس البعثة، وتقديمه – بعد امتناع – تقريرا شفهيا مختصرا عن نتائج الزيارة، ظهر فيه جليا أن البعثة لا تذكر القدس كمدينة محتلة، ولا تحمل أي مسؤولية للاحتلال عن تردي الأوضاع المعيشية في المدينة وتدهور أحوال المواقع الأثرية.
وتقول ريتا عوض: «لعل أخطر ما صرح به التقرير، أن القدس لا تستجيب، في وضعها الحالي، لشروط التسجيل في قائمة التراث العالمي، مما يوحي بخطر إسقاطها من هذه القائمة!». الغريب أن إسرائيل كانت قد تقدمت عام 2000 بطلب لتوسعة موقع مدينة القدس القديمة على القائمة ذاتها، من أجل إضافة معبد يهودي، في محاولة سافرة للتدخل في ملف المدينة. غير أن المجموعة العربية تصدت لذلك، وتمكنت من إيقاف الطلب، اعتمادا على ضرورة الحصول على موافقة الدولة المعنية بمدينة القدس، وهي الأردن، التي كانت قد نجحت في تسجيل المدينة العتيقة عام 1981 على قائمة التراث العالمي، وفي عام 1982 نجحت في تسجيلها على قائمة المواقع المهددة بالخطر.
وهكذا تستمر محاولات إسرائيل المدعومة بتواطؤ من هيئات دولية لشطب القدس من قائمة التراث العالمي (التي تعطي المواقع المسجلة أولوية الإنقاذ في حال حدوث أي مشكلات، أو كوارث كبرى تهدد آثارها). وهو ما يفتح الباب بعد ذلك إلى بدء تسجيل جزئي لمواقع بالمدينة المقدسة على أنها إسرائيلية!
الخطة الإسرائيلية أحبطت في اجتماع مركز التراث العالمي، الذي عقد في يونيو 2004 بمدينة سوشو الصينية. لكن فشلها لا يعنى أن المحاولات توقفت، لأن التجارب السابقة تشير إلى أن الفشل المرحلي لا يلغي الفكرة، بل يجمدها لفترة، تعود بعدها للظهور من جديد. وسواء نجح المخطط مستقبلا أو فشل، فإنه يظل دليلا على أن العقلية الإسرائيلية لا تتوقف عن ابتكار مخططات، تهدف باستمرار إلى سرقة التاريخ ونزع الهوية الأصلية عن المنطقة لصالح تواريخ أخرى مختلقة!