يلحظ الدارس لعلوم الإسلام غنى الفقه الإسلامي في الأحكام المتعلقة بالفرد المسلم سواء في مجال الصلاح أم الطلاح.
فعند الصلاح نجد ألفاظاً مثل التقي الورع المنيب العابد الزاهد إلخ..
وعند الطلاح نجد ألفاظاً مثل الفاجر الفاسق الكاذب الطاغي إلخ…
ويلحظ الدارس أن هناك توصيفاً دقيقاً لكل لفظ من الألفاظ السابقة.
لكننا نلحظ في المقابل فقر الفقه الإسلامي في المقاييس والألفاظ التي يمكن أن تقوّم من خلالها الجماعات الإسلامية في العصر الحديث.
فقد قامت كثير من الجماعات الإسلامية على مدى القرن الماضي في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، واستهدفت أموراً دعوية وجهادية وخيرية وسياسية واجتماعية إلخ…
لكننا نفتقر إلى فقه شرعي نقوّم به مدى نجاح هذه الجماعات وفشلها، ومدى صوابها وخطئها، ونقيس به تقدمها وتأخرها لنصدر حكماً دقيقاً عليها.
ومن أجل سد هذه الثغرة لابد لنا من العودة إلى الجماعات التي قامت على مدى التاريخ الماضي، واستعراض الأسس التي قامت عليها والأعمال التي أنجزتها بشكل سريع من أجل استخلاص معالم أصول التقويم الذي نتطلع إليه من أجل تطبيقه على عصرنا الحاضر.
وعند القيام بتلك العودة نجد أن الجماعات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أما القسم الأول فهي الجماعات العلمية التي أثارت قضايا شرعية ودينية في مجالات مختلفة كالعقائد والفقه والحديث إلخ…، أو هي الجماعات التي قامت بالتصحيح أو الإضافة في قضايا مثارة، ويمكن أن نمثل على ذلك بجماعات المذاهب الفقهية الأربعة، وبجماعة المعتزلة، وبجماعة الأشاعرة إلخ…
فالمذاهب الفقهية نشأت نتيجة اجتهادات خاصة في مجالات علم الحديث وعلم أصول الفقه والأحكام الشرعية إلخ… واستفاد كل إمام من الإمام الذي سبقه.
فالشافعي استفاد من أبي حنيفة ومالك في تكوين مذهبه وخالفهما في بعض القواعد والاجتهادات كالموقف من حديث الآحاد، والموقف من بعض القواعد الأصولية كالاستحسان وإجماع أهل المدينة إلخ…
ونشأت جماعة المعتزلة على قضية عقدية هي قضية صفات الله سبحانه وتعالى، وكان انطلاقها أن تنـزيه الله تعالى يقتضي تعطيل الصفات، لذلك قالت بخلق القرآن الكريم، وقالت بعدم رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
ثم قامت جماعة الأشاعرة رداً على المعتزلة ثم تطورت مقولاتها حول قضايا الصفات وخلق القرآن الكريم بدءاً من أبي الحسن الأشعري ومروراً بالباقلاني وانتهاء بالرازي.
أما القسم الثاني فهي الجماعات العملية، فقد قامت بخدمات عملية للأمة، ويمكن أن نمثّل على ذلك بالسلجوقيين الذين حكموا بغداد منذ عام 450ﻫ والذين أنقذوا الخلافة العباسية من تسلط البويهيين الذين كانوا يغازلون دولة الخلافة الفاطمية في القاهرة.
ويمكن أن نمثّل على ذلك أيضاً بالأسرتين الزنكية والأيوبية اللتين ساهمتا بدور كبير في تحرير الأرض الإسلامية من الصليبيين، ويمكن أن نمثل على ذلك أيضاً بالمماليك البحرية والشركسية الذين صدوا الهجوم المغولي الكاسح من جهة، واستكملوا تحرير الأرض الإسلامية من أيدي الصليبيين من جهة أخرى.
ويمكن أن نلاحظ في مجال الجماعات العملية أنها أخذت شرعيتها في أرض الواقع من التسليم بالقرآن والسنة، والعمل تحت لوائهما، وتنفيذ أحكامهما، واعتبارهما مرجعية للأمة وحدهما دون سواهما، وهذا ما دعا طائفة الفقهاء والعلماء إلى الاستسلام لقيادتهم، ودعوة جماهير الأمة إلى طاعتهم والانقياد لهم.
أما القسم الثالث فهي الجماعات العلمية والعملية، وهي الجماعات التي جمعت بين العلم والاجتهاد الشرعيين من جهة، وبين القيام بدور عملي من جهة أخرى.
ويمكن أن نمثّل على هذا القسم بجماعة الموحدين التي أسسها محمد بن تومرت والتي حكمت المغرب العربي وامتد نفوذها إلى الأندلس.
ويمكن أن نمثّل على هذا القسم أيضاً بجماعة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، إذ دعا إلى تنقية العقيدة من أي شرك، ودعا إلى تنقية العبادة من أية بدع، واستطاع أن يطبق ذلك من خلال التحالف مع محمد بن سعود على معظم الجزيرة العربية.
لو تفحصنا القرن الماضي لوجدنا أن جماعات إسلامية كثيرة قامت، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك:
ما الأمور التي تشترك فيها هذه الجماعات؟ وما الملاحظات التي يمكن أن نلاحظها عليها على ضوء التصنيف التاريخي السابق؟
تشترك هذه الجماعات في أنها جماعات علمية وعملية، وسبب ذلك أنها جاءت بعد سقوط الخلافة، وأنها استهدفت أمراً شرعياً وهو إعادة الخلافة.
لذلك لابد من العلم والعمل، ولكننا نلاحظ في المقابل أن الجانب العلمي ضعيف عند أكثرها، فأكثر الجماعات لم تحلّل عوامل ضعف الأمة، ولم تحدد خطوات النهوض، ولم تقنن نظرية التغيير الإسلامية من وجهة نظرها على الأقل.
ولم تدرس الحضارة الغربية دراسة وافية، ولم تدرس الواقع المحيط بها دراسة متعمقة، ولم تقوّم التجارب الإسلامية المعاصرة لها، ولم تحلّل البناء النفسي والعقلي للمسلم المعاصر، ولم تقم بالفرز العقائدي المناسب، ولم تقم بالغربلة الفقهية المطلوبة إلخ….
كل ذلك أدى إلى أن يكون نجاحها في تحقيق أهدافها محدوداً، وأدى إلى أن يكون استهلاكها من رصيد الأمة التاريخي أكثر من إضافتها، لذلك يفترض بهذه الجماعات أن تعمّق الجانب العلمي فيها، وتستكمل النقص، وتسد الثغرات لكي تستطيع أن تكون أكثر تأثيراً في مسيرة الأمة.
أما الجماعات العملية في القرن الماضي فهي كثيرة ومتنوعة وقامت بأدوار مختلفة: الخيري والثقافي والجهادي إلخ….
لكن أبرز أعمالها كان جهاد الاستعمار وإيصال البلاد إلى الاستقلال، ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى ما قامت به تلك الجماعات في تحرير المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وسورية والعراق وباكستان وفلسطين إلخ…
ومن الواضح أنها لم تعد الإسلام إلى الفعل في كل فروع حياة المجتمع، وذلك لأن قياداتها ومناهجها كانت خليطاً من الإسلام والوطنية والقومية والاشتراكية إلخ…
أما الجماعات العلمية فهي أقل الجماعات وجوداً خلال القرن الماضي مع أن الساحة الإسلامية بحاجة إليها أكثر من غيرها، والأرجح أن هذا نتج عن ضعف الفاعلية العقلية التي يعاني منها المسلم المعاصر، والتي تتجلى في ضعف النقد للأعمال الإسلامية، وفي نقص تقويم رجال الفكر الإسلامي، وفي قلة الاستفادة من بعض المعطيات العلمية في الحضارة الغربية.
وربما كانت أكثر الجماعات العلمية بروزاً هي الجماعات السلفية، لكن الملاحظ أن أغلب جهودها كانت متركزة على إحياء بعض العلوم التي أشبعت بحثاً من قبل كعلم الحديث وعلم أصول الفقه وعلوم القرآن إلخ…