ونحن من أجل أن نحدد سبب هذه المشكلة المعاصرة سندرس كيفية معالجة الإسلام للجانب الجماعي في حياة المسلم، والنتائج التي أفرزتها تلك المعالجة على مدار التاريخ السابق، فذلك مما يساعدنا على تحليل أسباب المشكلة المعاصرة.
لقد عالجت شرائع الإسلام وشعائره الجانب الجماعي في كيان المسلم ، أما الشرائع التي رعت هذا الجانب فقد نقلت العربي من أفق القبيلة إلى أفق آخر هو أفق الأمة فقال تعالى :
(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) ( (الأنبياء ، 92) وقال تعالى أيضاً :
(وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون ، 52)،
والشرع من أجل أن يحقق هذه النقلة لا بد من أن يدعو العربي إلى تصبير نفسه مع الجماعة والابتعاد عن شهوات النفس وحظوظها في الحياة الفردية لذلك أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصبّر نفسه مع إخوانه فقال تعالى :
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) (الكهف،28).
كما حضّت بعض الآيات الكريمة على التزام الجماعة والتجمع لما في ذلك من خير وفائدة على الفرد ذاته ، فقال تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران ،103).
وقد نقل الطبري في تفسيره عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً
“قال : حبل الله الجماعة”.
ونهت آيات أخرى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى :
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى ،13).
فقد نقل الطبري عن قتادة قوله تعالى: ولا تتفرقوا فيه “تعرفوا أن الفرقة هلكة وأن الجماعة ثقة”.
أما السنة فالأحاديث التي تحض على الجماعة أكثر من أن تحصى، فقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه بالجابية عندما نقل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن” (رواه الترمذي).
وقد نقلت الأحاديث رواية أخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها:
“وأنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهن : السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع” (رواه الترمذي) .
وقد وردت عدة أحاديث تشير إلى بركة التجمع والجماعة بأن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة وأن يد الله معها : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله على الجماعة ، ومن شذ شذ في النار”) (رواه الترمذي).
وقد وضّح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجماعة رحمة والفرقة عذاب فقد نقل النعمان بن بشير عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله :
“الجماعة رحمة والفرقة عذاب” (رواه ابن أبي عاصم في السنة) .
لذلك فقد أثّمت التشريعات الإسلامية من يخرج عن الجماعة، ويشق صفها، وقد وصلت إلى حد الدعوة إلى قتله كائناً من كان، وما كل ذلك نتيجة إدراك الشريعة لأهمية الاجتماع وخطورة الافتراق فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
“من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه” (رواه ابن أبي عاصم في السنة).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً:
“من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية”) (رواه مسلم) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً :
“فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان” (رواه مسلم) .
وقد رعت شعائر الإسلام الجانب الجماعي في حياة المسلم، ونمته، وأعطته حقه، فلو أخذنا الصلاة التي هي الشعيرة الأولى والأهم بين الشعائر التي يؤديها المسلم لوجدنا أن الإسلام أوجب على المسلم أن يؤدي فرضها في جماعة على أرجح الآراء، في حين أنه فضّل أداء السنن منفرداً في البيت بعيداً عن أعين الناس.
ولا شك أن الحكمة من ذلك تلبية الجانبين الجماعي والفردي في فطرة المسلم، وإن تفصيلات أداء صلاة الجماعة من حيث الوقوف في صف واحد والحرص على استقامة الصف، ومتابعة الإمام في القيام والركوع والسجود وعدم استباقه في أي عمل من أعمال الصلاة مما ينمي جانب الالتزام الجماعي في نفسية المسلم وحياته.
وتأتي صلاة الجمعة التي فرض الشرع على المسلم أداءها كل أسبوع في المسجد مرحلة أرقى في تنمية الجانب الجماعي عند المسلم، فالمجئ إلى المسجد واستماع الخطبة التي يحدّث الخطيب فيها المسلم بأمور إخوانه المسلمين، ويصوّر له أحوالهم ليحدد له الواجبات التي يجب أن يقوم بها نحوهم.
تأتي مرحلة أرقى في التوعية والتبصير والربط بين المسلم وإخوانه الآخرين، وتأتي صلاة العيد لتربط المسلم بأهل بلدته جميعاً، وهي مرحلة أرقى في الربط الجماعي.
ثم يأتي أداء الحج على المسلم مرة في العمر ليربطه بأمته الإسلامية، فيلقى المسلم أثناء أدائه شعائر الحج إخوانه المسلمين على مختلف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم، يلبسون لباساً واحداً ويؤدّون شعائر واحدة في وقت واحد، مما يدعم ربط المسلم بأمته وينمي الجانب الجماعي عنده.
ولم يكتف الإسلام بتغذية الجانب الجماعي في حياة المسلم بسن التشريعات اللازمة له وفرض العبادات التي تؤدي إلى تنميته، بل زكّى الأخلاق المرتبطة به كالتضحية والإيثار، ونفّر من العزلة، وحثّ على مخالطة الآخرين والصبر على أذاهم.
ويأتي خُلُق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذروة في هذا المجال من ناحية الحرص على الجماعة والأمة ومتابعة أمورهما، وتنمية المعروف فيهما، وإبعاد شرور المنكر عنهما، فقد حثت عدة آيات وأحاديث على خلق التضحية والإيثار وزكته فقال تعالى:
(والذين تبوأوا الدار والإيمان يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر، 9).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه الترمذي).
وقد وجّه الإسلام المسلم إلى فعل الخير نحو الآخرين في عدّة دوائر تبدأ بوالديه وتتصاعد حتى تصل إلى كل الإنسانية مروراً بأقاربه وجيرانه، فقال تعالى:
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتام والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ….) (النساء ، 36).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على مخالطة الناس والصبر على أذاهم:
“المسلم إذا كان مخالطاً الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” (رواه الترمذي).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
“من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (رواه النسائي) .
لقد أثمرت تلك المنهجية التي رسمها الإسلام في شرائعه وشعائره أمة متماسكة فاعلة مؤثرة، وقد بدأت تلك الأمة بجيل الصحابة الذي شكل الجانب الجماعي سمة بارزة في تصرفاته ويشهد على ذلك إيواء الأنصار للمهاجرين، وتقاسمهم معهم الأموال والثروات، فضربوا بذلك مثلاً أعلى في إيثار الآخرين، وقد استمرت الأمة فاعلة تحتوي أعراقاً وأجناساً وشعوباً مختلفة، تبني حضارتها الخاصة بها في كل مجال، وتتجاوز كل العقبات التي تواجهها في كل المجالات العلمية والثقافية والعسكرية والاقتصادية إلخ…
وقد أفرزت الأمة قيادتين على مدار التاريخ هما قيادتا الأمراء والعلماء بعد أن كانتا قيادة واحدة متمثلة في الخلفاء الراشدين، وقد استمرت هاتان القيادتان تعبران عن الجانب الجماعي في الكيان الإسلامي.
الأولى: تجيّش الجيوش التي تدفع غائلة الأعداء، وتوسّع الأجواء أمام هدي الإسلام وأنواره.
الثانية : تحرس الإسلام في المجتمع، وتبني الإيمان في قلوب المسلمين وعقولهم، وعندما بدأ الضعف يستشري في كيان الأمة الإسلامية وبدأ الغرب يستعمر أرض الخلافة الإسلامية قطعة قطعة: الهند، الجزائر، عدن، تونس، مصر، العراق، بلاد الشام إلخ…
ثم أسقط الخلافة فسقطت قيادة الأمراء، وفي الوقت نفسه دب الضعف في قيادة العلماء، ودب الضعف في الجانب الجماعي من شخصية المسلم المعاصر كما رصدنا ذلك في بداية المقال.
أهم العوامل هي:
عرفت الساحة الفقهية في الوقت الحاضر أحكاماً مختلفة حول الانتماء إلى التجمعات الإسلامية، فبعض الفقهاء حرّمها، وبعضهم أوجبها، وبعضهم ربط الحكم بحالة الانتماء ومواصفاتها، والحقيقة إن هذا التباين في الحكم يعود إلى أن الفقه الإسلامي عرف قيادة رئيسية هي قيادة الخليفة للمسلمين، وتجمعاً رئيسياً هو تجمع جماعة المسلمين، وقد اعتبر الفقه نفسه أن تشكيل أية جماعة هو خروج على جماعة المسلمين، فمن قام بذلك فقد احتمل إثماً عظيماً لأنه مزّق جماعة المسلمين.
إن هذا المناخ الفقهي المعادي لتشكيل تجمعات إسلامية ما زال هو المخيّم والنافذ والشائع، لذلك فإن الفقه الإسلامي يتعامل مع إنشاء أية جماعة وكأنه خروج عن جماعة المسلمين، مع أن الوضع قد اختلف، ولم يعد هناك وجود لجماعة المسلمين، فإن ذلك حكم واحد لقضيتين مختلفتين، مع أنه يجب أن يكون حكمان لاختلاف الواقعتين والقضيتين:
الأول: يمنع ذلك أثناء وجود الخليفة وجماعة المسلمين.
والثاني: يبيح ويسمح بل ويوجب ذلك في غياب الخليفة وجماعة المسلمين.
انتشر التصوف فى العالم العربي إنتشاراً كبيراً فى القرون الأخيرة، ويقوم التصوف على تغذية الخلاص الفردي، والانكفاء على الذات، وعدم الاهتمام بالآخرين انطلاقاً من مقولته: “دع الخلق للخالق”، والمتصوف من أجل أن يحقق خلاصه الفردي عليه أن يعتزل الآخرين، ويهتم بذاته، إن هذا المناخ العبادي الذى أشاعه التصوف نمّى الأخلاق الفردية على حساب الأخلاق الجماعية، وضخم الجوانب الذاتية على حساب الجوانب الإجتماعية فى الشخصية المسلمة، مما كان له أثر فى ضعف التوجهات الجماعية وضمورها فى المجتمع الإسلامي.
لقد تعرضت منطقتنا الى موجة عاتية من التغريب خلال القرن الحالى واستطاعت هذه الموجه أن تجتذب عدداً لا يستهان به من أبناء أمتنا، لكن عدداً آخر تعرض للضياع لأنه لم يرض أن يلحق بتيار التغريب من جهة ولم يستطع أن يحافظ على واجبات انتمائه لأمته من جهة ثانية، إن هذا القسم الضائع عاش لذاته لأنه فقد روابطه الجماعية بأمته وأبناء جلدته.
هذه بعض العوامل التي أدت إلى ضمور الجانب الجماعي في حياة المسلم المعاصر، فعلينا من أجل أن نزيل الضمور أن نشيع مناخاً فقهياً سليماً يعطي أحكاماً سديدة، وعلينا أن نشيع مناخاً عبادياً يلتزم الصحة الدينية ليثمر أخلاقاً جماعية غيرية، وعلينا أن نحدد الأصول السليمة للتفاعل الحضاري من أجل إنقاذ قطاع كبير من أبناء أمتنا من موجة التغريب العاتية.