عن التيار التوفيقي: دوره في النهضة ومصيره

عن التيار التوفيقي: دوره في النهضة ومصيره

كان هناك احتكاك وتفاعل بين الحضارتين الإسلامية والغربية في القرن التاسع عشر، ومن الطبيعي أن تكون إستانبول مقر الخلافة مركزاً من مراكز التفاعل ذاك، ولكن بعد أن أقام محمد علي باشا دولته في مصر في مطلع القرن التاسع عشر أصبحت مصر مركزاً آخر من مراكز التفاعل مع الحضارة الغربية نتيجة العلاقات الخاصة التي أقامها محمد علي باشا مع فرنسا التي استفاد منها في إنشاء دولة عصرية تلعب دوراً اقليمياً واسعاً، ونحن سنرصد صورة التفاعل في هذين المركزين وتطوراته.

        في مطلع القرن التاسع عشر برز في استانبول تيار توفيقي يصب في اتجاه التفاعل مع معطيات الحضارة الغربية، وقام هذا التيار بعدة إجراءات منها: إلغاء الجيش الانكشاري وإحلال جيش نظامي مكانه وقد حدث ذلك عام 1826م، ثم أتبعه بإصدار خط كلخانه الذي صدر في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1839م والذي يعتبر  بمثابة إعلان حقوق الإنسان في الدولة العثمانية، ثم إصدار الخط الهمايوني في 18 شباط/ فبراير 1856م الذي ألحق الخلافة العثمانية باقتصاد السوق، ثم جاءت ذروة القرارات التشريعية إصدار دستور للخلافة العثمانية في عام 1876م على غرار الدساتير الغربية، ولم تكن جهود التيار التوفيقي مع الحضارة الغربية محصورة بمجال واحد بل تعدته إلى مجالات أخرى منها التعليم، فقد أنشأ هذا التيار وزارة للتعليم على غرار التعليم الغربي سميت وزارة المعارف، فطبقت المدارس التابعة لوزارة المعارف المنهج الفرنسي ونظام الإدارة الفرنسية، وقد وصل تأثير التيار التوفيقي إلى القوانين والمحاكم فصدرت قوانين تجارية تنظم المحاكم التجارية التي أدمجت في المحاكم المختلفة.

        لقد اختلف الدارسون حول هذه الإصلاحات هل جاءت نتيجة حاجات داخلية وقرار داخلي أم أنها جاءت نتيجة ضغوط الدول الغربية وتدخل سفاراتها في الشؤون العثمانية، والحقيقة أنّ الإصلاحات جاءت نتيجة الأمرين: نتيجة القرار الداخلي ونتيجة الضغوط الغربية، وقد لقيت تلك الإصلاحات معارضة واسعة من شرائح مختلفة من المجتمع الإسلامي آنذاك، ولكن أمكن تجاوز تلك المعارضة وذلك لحتمية التفاعل بين الحضارتين: الغربية والإسلامية من جهة، ولأنها المسار الطبيعي الذي يجب أن تسير فيه الأمور كي تتوصل الأمة إلى حل إشكالية التعامل مع الحضارة الغربية من جهة ثانية، ولكن حدثت وقائع أدت إلى إلغاء هذا التيار التوفيقي وفرضت سبيلاً آخر هو سبيل نقل الحضارة الغربية برمتها، ولنر ما الذي حدث وماذا كانت نتائجه.

        جاء أتاتورك إلى الحكم بعد الحرب العالمية الأولى وألغى كل التيار التوفيقي وخطواته، واتخذ خطوات جذرية لنقل الحضارة الغربية بكل حذافيرها، فألغى الخلافة الإسلامية وأعلن النظام الجمهوري، وطبق العلمانية، وفصل بين الدين والدولة، وقطع كل ما يصل تركيا بتاريخها الإسلامي، فكتب اللغة التركية بالحرف اللاتيني بعد أن كانت تكتب بالحرف العربي، وبعث التاريخ التركي الطوراني السابق على الإسلام وربط الأتراك به، ووجه المجتمع إلى العادات والتقاليد الغربية، فأجبر المرأة على خلع الحجاب، وعمّم لبس البرنيطة بدلاً من الطربوش، وغير الأسماء الإسلامية إلى أسماء تركية، وجعل الأذان بالتركية بدلاً من العربية، هذا عدا التشريعات الاجتماعية التي كانت نقلاً حرفياً عن التشريعات الغربية، وقد اعتبر الجيش نفسه حامياً لكل تعليمات أتاتورك، وبالفعل قامت عدة انقلابات بعد مماته منذ الستينات وكانت كلها من أجل مواجهة القوى الاجتماعية المناوئة لما فرضه كمال أتاتورك على الشعب التركي، فماذا كانت حصيلة ذلك؟ هل هضم الشعب التركي الحضارة الغربية؟ هل تواءم معها؟ هل كيّف ذاته حسب معطياتها؟

        إنّ المتأمل لوضع تركيا الآن والناظر لصعود التيار الإسلامي منذ الستينات والتغيير المستمر للافتات التي تقوده من حرب السلامة إلى حرب الرفاه إلى حزب الفضيلة، وحصول حزب الرفاه بالذات في انتخابات عام 1996م على الأكثرية النسبية، وتوقع حصول حزب الفضيلة على أكثرية نسبية في انتخابات عام 1999م، يبين مدى التململ الذي يعيشه المجتمع التركي، وعدم هضمه للحضارة الغربية، وربما كان يعود ذلك في جانب كبير منه إلى فرض كمال أتاتورك الحضارة الغربية على المجتمع التركي وإلى إلغائه للتيار التوفيقي الذي تفاعل بشكل طبيعي مع الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر وترك نتائج مهمة في كل الدوائر العثمانية: السياسية، والقانونية، والاجتماعية، والتعليمية، والاقتصادية الخ…، وسنرى ذلك بصورة أوضح عندما ننظر إلى تيار توفيقي آخر في مكان آخر من جسم الخلافة العثمانية هو مصر بعد تولّي محمد علي باشا لحكمها في مطلع القرن التاسع عشر.

        بدأ محمد علي باشا إصلاحه بالجيش فأوكل قيادته لضابط فرنسي هو جوزيف سيف تعاونه هيئة أركان مكونة من ضباط فرنسيين وغير فرنسيين، وقد نظّم أتباع سان سيمون وزارة التعليم العام في مصر، كما أشرف الكاهن دوم رافائيل على مطبعة بولاق عام 1821م، فنشرت كتباً عربية وتركية وفارسية، ورافق رفاعة رافع الطهطاوي البعثات العسكرية إلى فرنسا وهناك عاد بنظرياته في التوفيق، وصوّر تجربته في باريس في كتاب ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز” كما دعى إلى تعليم البنين والبنات في كتابه “المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين” ثم ظهر التيار التوفيقي بصورة أوضح بمحمد عبده وتلاميذه وأبرزهم رشيد رضا الذي أكمل تفسير المنار الذي بدأه محمد عبده والذي أرسى فيه منهجه في التقريب بين معطيات الدين والحضارة الغربية.

        وقد جاء التطور الأهم الذي مر به هذا التيار التوفيقي على يد حسن البنا الذي نقله من تيار نخبة وصفوة تجمعها حلقات علمية وتصدر قرارات من الأعلى إلى الأسفل إلى تيار شعبي هادر، يجمع في صفوته مختلف طبقات المجتمع: الوسطى والفقيرة، المتعلمة والجاهلة، المدنية والريفية، مما جعل كثيرين ممن كانوا منحازين إلى الحضارة الغربية يسترضون هذا التيار الشعبي ببعض الكتابات كما فعل طه حسين عندما كتب على هامش السيرة والشيخان والفتنة الكبرى ومرآة الإسلام بغض النظر عن الأهداف التي قصدها في تلك الكتابات.

        ولكن هذا التيار التوفيقي تعرض لما تعرض له تيار استانبول التوفيقي فجاء الفكر القومي العربي بعد الحرب العالمية الثانية ليلغي التيار التوفيقي ويعتمد نقل الحضارة الغربية وسبب ذلك أنّ الفكر القومي لساطع الحصري هو الفكر الذي تبناه جمال عبدالناصر بعد تسلمه لحكم مصر عام 1954م وهو فكر علماني لا يعتبر الدين الإسلامي عنصراً من عناصر القومية، وقد انتقل فهم جمال عبدالناصر للقومية العربية إلى معظم الدول العربية الأخرى التي كانت تدور في فلكه ومعظم الأحزاب والحركات القومية الفاعلة في الساحة العربية آنذاك، ثم تبنى جمال عبدالناصر الاشتراكية في مرحلة الستينات، وكان هذا التطوّر أساسيّاً في إحداث القطيعة الكاملة مع التيار التوفيقي، وفي تعميق معاداة التيار القومي للتيار الديني حيث راجت التحليلات الماركسية التي تربط التخلّف والرجعية والجمود والتحجر بالدين الإسلامي، وتدعو إلى هدم التراث كله. وقد انتقلت الطروحات الاشتراكية إلى حركات وأحزاب كانت مغالية في قوميتها كحركة القوميين العرب فغاب الطابع القومي العربي ليبرز طابع ماركسي صارخ وكانت النتيجة الطبيعية لمثل تلك التطورات هي إلغاء التيار التوفيقي، وإخفات صوته، والقضاء على نتائجه التي توصل إليها.

في نهاية المقال هل يحق لنا أن نتساءل بعد هذا العرض السريع لأحداث المنطقة عن دور الفكر القومي العلماني: التركي والعربي في إلغاء التيار التوفيقي وبالتالي عرقلة قيام النهضة؟ أظن أنه لا يحق لنا فقط أن نتساءل بل نقرر.

اترك رد