عن دور إسرائيل وإيران في التفتيت الطائفي للأمّة

استلمت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة المعسكر الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية من إنجلترا وفرنسا، وحلّت في المرتبة الأولى في قيادة العالم مع الاتحاد السوفييتي، وبدأت حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي و الشيوعي، وقد طرحت الرأسمالية شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية السوق إلخ…، وقد تغلّبت أمريكا -في النهاية- على الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، وتفكّك الاتحاد السوفييتي إلى دول متعدّدة، ثم طرح كل من صموئيل هنتنغتون شعار صراع الحضارات وفرانسيس فوكوياما شعار نهاية التاريخ، واعتبرا أنّ الصراع الحالي تحكمه الثقافات وليس الايديولوجيات أو الاقتصاد، فهناك صراع بين الثقافات الإسلامية والارثوذكسية والكاثوليكية والكونفوشية إلخ…

        ثم تفرّغت أمريكا للعالم الإسلامي وبدأت الأحداث تتوالى منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فاحتلّت أمريكا أفغانستان في نهاية عام 2001، ثم أتبعته باحتلال العراق عام 2003، ووجدنا حديثاً متواضعاً عن الزعم بإحلال الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، لكنّ هذا الحديث اختفى بعد فترة بسيطة، وارتفعت الأصوات تدعو إلى تقسيم المنطقة بصورة طائفية وإثنية وعرقية، وكان من أبرز تلك الأصوات مقال بعنوان “حدود الدم” للضابط الأمريكي “رالف بيترز” نشرته مجلّة القوّات المسلّحة الأمريكية (في عدد تموز (يوليو) 2006)، وقد اعتبر ذلك المقال أنّ مشروع سايكس-بيكو الذي قسّم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى راعى مصالح الدولتين الكبريتين آنذاك إنجلترا وفرنسا ولم يراع مصالح الطوائف في المنطقة، وقد اعتبر ذلك المقال أيضاً أنّ عدم الاستقرار جاء  من ذلك التقسيم الذي لم يلتزم الحدود الطائفية والإثنية، لذلك ومن أجل تصحيح ذلك الخطأ دعا المقال إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية، ودعا إلى البدء بتقسيم العراق إلى عدّة دول: كردية في شمال العراق، وشيعية في جنوب العراق، وسنّية في وسط العراق إلخ…، وشملت خريطة التغييرات التي اقترحها المقال عدّة دول هي: الأردن، سورية، السعودية، إيران إلخ…

        ومن الواضح أنّ دعوى تقسيم العراق وغيره من الدول تتطابق مع المشروع الإسرائيلي للمنطقة، فإسرائيل تسعى منذ قيامها لتفتيت المنطقة، وتقسيمها إلى دول متعدّدة حسب الأعراق والأجناس والطوائف التي تحتويها دول هذه المنطقة، وقد جهر بذلك مؤسّسوها، واعتبروا أنّ عدم استقرار المنطقة ليس ناتجاً من وجود إسرائيل -كما هي الحقيقة- لكنه ناتج من عدم تطابق حدود الدول مع حدود الطوائف والأعراق. ومن المؤكّد أنّ هدف المشروع الإسرائيلي ليس توليد الاستقرار في المنطقة بل إيجاد الضمان الأكيد لحفظ الكيان الإسرائيلي من أيّة أخطار مستقبلية، فذلك التقسيم العرقي والتفتيت الطائفي هو الذي يضمن انزراع ذلك الوجود الغريب في المنطقة العربية.

ليس من شك بأنّ انزلاق دولة عظمى كالولايات المتحدة لتنفيذ مشروع دولة صغرى كإسرائيل جاء نتيجة لوبي إسرائيلي تاريخي قوي يلعب ويؤثّر في السياسات الأمريكية، ويوجّهها لتتطابق مع المصالح الإسرائيلية، وقد أوضحت ذلك عدّة دراسات علمية موضوعية أكاديمية آخرها دراسة العالمين الأمريكيين جون جي شايمير وستيفن. ام والت في دراستهما المشتركة التي نشراها في مجلّة إنجليزية هي “ريفيو أوف بوكس” بعد أن رفضت نشرها المجلات الأمريكية، ومن الدراسات العلمية التي تصبّ في هذا المجال أيضاً ما قاله المؤرّخ العالمي أرنولد توينبي والذي أشار في دراساته التاريخية إلى انّ نفوذ اليهود وتأثيرهم في سياسات أمريكا لا يتناسب مع حجمهم، ومن الدراسات التي تؤكّد حقيقة النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة والذي لا يتناسب مع حجمهم التحقيق الذي أجراه الكونغرس في الستينات عن تأثير اللوبي الإسرائيلي في وسائل الإعلام الأمريكي، والذي أتبعه بنشر توصيات للحدّ من ذلك النفوذ.

لكنّ المؤسف أنّ الذي يساعد إسرائيل على إعطاء توجّهاتها الطائفية زخماً وفاعلية هي إيران التي تتناغم معها في إذكاء مثل تلك التوجّهات وإن تظاهرت بعكس ذلك، فأفعالها تكذّب أقوالها، ومن أبرز تلك الأفعال أنّ مؤيّديها من الائتلاف الشيعي هم الطرف الرئيسي في العراق الذي يتجاوب مع الاحتلال الأمريكي في إجراءاته الطائفية والتي بدأها بريمر حاكم العراق الأمريكي بإنشاء مجلس الحكم الأول حسب المحاصصة الطائفية، ثم أقرّ مؤيّدوها الدستور العراقي الذي طرحه بريمر والذي يرسّخ الطائفية، ثم خطا مؤيّدوها خطوة متقدّمة عندما طرحوا تكوين فيدرالية في الجنوب تضّم المحافظات الشيعية.

        من الراجح أنّ التفتيت الطائفي الذي يسعى له المشروع الإسرائيلي والذي تنفّذه أمريكا في العراق يتم تحقيقه على الأرض بواسطة طرفين ولاعبين هما: الاحتلال الأمريكي من جهة وإيران من جهة ثانية، وإذا كان ذلك غير صحيح وغير قائم، فيمكن أن ترفع إيران الغطاء عن الأطراف الشيعية التي تنفّذ ذلك في بغداد والبصرة ومحافظات الجنوب، لكّن الوقائع تؤكّد أنّ إيران تدعم تلك الأطراف التي تمارس التفتيت الطائفي بالأموال والسلاح والمعلومات والتدريبات، والغطاء السياسي إلخ…

        ليس من شك بأننا لسنا سعداء بمثل هذا الحديث عن إيران ودورها الطائفي، ونتمنّى أن لا تكون لها أيّة مساهمة في تنفيذ التفتيت الطائفي للأمّة، لكن علينا أن نتعامل مع الحقائق وليس الأوهام والتمنّيات، فالحقائق تقول: إنّ إيران تلعب دوراً في التفتيت الطائفي للأمّة، وأوضح ما يكون ذلك في العراق ولا نريد أن نوسّع دائرة الحديث والبحث والاتهام ليشمل أمكنة أخرى، والأكيد أنّ الرابح الأكبر من هذا التفتيت هو إسرائيل والخاسر الأكبر هو الأمّة، صحيح أنّ إيران تربح الآن ربحاً جزئياً لكنها ستكون خاسراً أكبر في النهاية.

اترك رد