كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن الثقافة والتطوير الثقافي بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وتناول حديث التطوير المناهج الدراسية في معظم الدول العربية وبخاصة المناهج الدينية، كما تناول حديث التطوير وسائل الإعلام بمختلف أنواعها المرئية والمقروءة والمسموعة، كي يحذف منها كل ما يتعلق بالتحريض على الكراهية والعنف… الخ. وتبلورت مشاريع عدة تناولت التطوير الثقافي في المنطقة، وأبرزها مشروع الشراكة الثقافية بين أميركا والشرق الأوسط الذي طرحه كولن باول في 12/12/2003، كما تحدّث مشروع الشرق الأوسط الكبير عن برامج ثقافية أيضاً للمنطقة العربية، وكلما جاءت كوندوليزا رايس وغيرها من القيادات الغربية كانوا يلقون محاضرات في الجامعات والمؤتمرات والندوات تدعو الى نشر ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان… الخ.
ومن الملاحظ أن مثل هذا الحديث عن الثقافة والتطوير الثقافي تجاهل أمراً أساسياً وهو أن الحديث قديم، وهو قد بدأ منذ أن ذهب رفاعة رافع الطهطاوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر الى باريس، وعاد وهو الشيخ الأزهري بملاحظات عدة عن باريس والمجتمع الفرنسي والحضارة الغربية، وكانت ثمرة ذلك أموراً ثقافية، أبرزها: انشاؤه داراً للترجمة ودعوته الى تعليم البنات، إذ ألف كتاباً يحمل عنوان «المرشد الأمين الى تعليم البنات والبنين»، ثم تلاه محمد عبده الذي عمل في مجالات عدة، لكن أبرزها المجال الثقافي، فقدّم مذكرة باصلاح الأزهر، وقدّم مذكرة الى شيخ الاستانة باصلاح التعليم، وعمل على انشاء جمعية لاحياء اللغة العربية، كما عمل على تحقيق كتب عدة، ثم تابع محمد رشيد رضا الذي أصدر مجلة «المنار» خطط محمد عبده وأكمل تفسير «المنار» الذي بدأه محمد عبده، وأصدر كتباً عدة رفدت الأمة بتوجهات كان لها أثر في تعديل التيار الديني بشكل عام. هذا عن العمل الثقافي في مصر وحدها، أما عن الدول العربية الأخرى فهناك دور ثقافي لعبدالحميد بن باديس في الجزائر، والزهاوي في العراق، وبن عاشور في تونس، وعلال الفاسي في المغرب، ومحمد بهجة البيطار ومحمد كرد علي في سورية… الخ.
الخلاصة ان الاهتمام بالثقافة والتطوير الثقافي قديمان، ليس ذلك فحسب، بل هو في بؤرة انشغالات قيادات الأمة السياسية والاجتماعية والدينية، ولكن السؤال: لماذا لم يؤت الاهتمام بالثقافة ثمرته المرجوة؟ لماذا لم يعط نتيجة؟ السبب ان المرحلة التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى شهدت اضطراباً غير مسبوق في تحديد الهوية ومعرفة الذات، فبرز سؤال بشكل مفاجئ، وبشكل غير مفهوم: من نحن؟ فكان الجواب: نحن أمة مصرية فرعونية، نحن أمة سورية، نحن ننتمي الى البحر الأبيض المتوسط، نحن أمة شرقية ننتمي الى الشرق وليس الى الغرب، نحن أمة اسلامية… الخ، وحتى نعطي مثالاً اكثر وضوحاً يوضح أبعاد المشكلة، سنتناول كتاباً من أهم الكتب التي صدرت في النصف الأول من القرن العشرين وهو كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، وطه حسين معروف بألقابه العلمية «عميد الأدب العربي» ومعروف بدوره الثقافي البارز في مصر وغيرها من العالم العربي، فماذا جاء في هذا الكتاب؟
تحدث طه حسين في هذا الكتاب عن المعلم والمدرسة والأزهر وعن اللغة العربية واللغة اللاتينية… الخ، ولكن أين الخطأ في حديث طه حسين؟ الخطأ الرئيسي في حديث طه حسين هو اعتباره ان مصر تنتمي الى الغرب، وان الشعب المصري يشكل أمة مصرية فرعونية بالمعنى الفرنسي للأمة التي تعتبر ان الجغرافيا هي عماد تشكيل الأمة، وأنها لا علاقة لها بالأمة العربية الاسلامية، وأنها أمة مغايرة، وأنها عبرت عن شخصيتها الحقيقية في زمن ابن طولون وما بعده من الحكام الذين حكموا مصر… الخ، ومن الاخطاء الرئيسية عند طه حسين اعتباره ان العقل المصري ينتمي الى العقل الغربي… الخ، لا شك ان الأفكار والاحكام والأقوال السابقة لا تحمل أدنى درجات الصحة، اذ كيف يمكن ان نعتبر ان الشعب المصري أمة فرعونية؟ كيف يمكن ان نفهم عادات الشعب المصري وتقاليده وأشواقه وعقائده وعباداته وأخلاقه وقيمه… الخ؟ هل يمكن أن نفهم الأمور السابقة ونفسرها إلا بالإسلام الذي أثر في كل جوانب حياة الشعب المصري؟
ثم استمر الضياع الثقافي عندما حكم الفكر القومي العربي مصر والعالم العربي، واعتبر أن المنطقة وجماهير الناس يشكلون أمة عربية بالمعنى الألماني للأمة، والتي تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، أي بالتنكر للدين الإسلامي، وعدم اعتباره هذا الدين مقوماً من مقومات بناء هذه الأمة، واستمر التنكر للدين في المرحلة الاشتراكية في مصر وغيرها، إذ برزت مقولات الصراع الطبقي، والحل الثوري واستئصال الدين الذي يُغذي الخرافة والوهم والتأخر حسب زعمهم… الخ.
تركز الخطأ في كل المعالجات الثقافية السابقة التي تلت الحرب العالمية الأولى على امتداد القرن العشرين في أنها لم تجب الاجابة الصحيحة على سؤال: «من نحن؟». والجواب الصحيح هو اننا أمة عربية إسلامية يلعب الدين الإسلامي دوراً رئيسياً ومحورياً في بناء عاداتها وتقاليدها وأخلاقها ومشاعرها… الخ، وتلعب اللغة العربية دوراً كبيراً في بناء ثقافتها وصوغ تفكيرها… الخ، وقد كان التنكر لتلك الحقائق هو السبب في فشل المعالجات الثفافية، ويظهر أن الخطأ هذا سيستمر، إذ أنهم يتحدثون – الآن – عن الشرق الأوسط الكبير والجديد، وكأنهم يتحدثون عن أفراد متناثرين متناقضين، ويريدون أن يصوغوا منهم وحدة متكاملة، مع أن كل حقائق التاريخ والجغرافيا تؤكد أن هذه المنطقة مسكونة بأمة عريقة هي الأمة العربية الإسلامية، وأنها تملك وحدة ثقافية وتاريخية واجتماعية ونفسية وعقلية… الخ، وأنه يجب الاستفادة من تلك الحقائق وعدم تجاهلها وإلا فستنتهي كل معالجات التطوير الثقافي إلى أسوأ ما انتهت إليه سابقاتها.