إلهية القرآن الكريم والتشكيك فيها قديماً وحديثاً

إلهية القرآن الكريم والتشكيك فيها قديماً وحديثاً
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى التي تلقى فيها الوحي أن يوضح أنّ القرآن الكريم من عند الله سبحانه وتعالى، وأنّ فيه دليلاً على نبوته صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى:

(وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) (النحل،6).

وقال سبحانه وتعالى أيضاً:

(ألم. تنـزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) (السجدة،1-2).

(حم. تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم) (غافر،1-2).

لذلك اجتهد المشركون من أجل تحطيم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإبطال نبوته التشكيك في إلهية القرآن، فقالوا عن القرآن إنه أساطير الأولين، قال سبحانه وتعالى:

(يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) (الأنعام،25).

وقالوا عنه أيضاً إنه سحر، قال سبحانه وتعالى: (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) (القصص،36).

واتهم المشركون الرسول بأنّ الذي يعلمه القرآن رجل أعجمي يسمى “بلعام” فرد القرآن عليهم بأنّ المعلم الذي ينسبون إليه تعليم القرآن أعجمي في حين أنّ القرآن عربي البيان، قال سبحانه وتعالى:

(ولقد نعلم إنهم ليقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل،103).

وقد اتهم المشركون الرسول بافتراء القرآن، قال سبحانه وتعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً) (الأحقاف،8)، فرد عليهم القرآن بأنّ محمداً معروف لديهم، وقد صاحبهم أربعين سنة قبل ذلك ولقبوه بـ “الأمين” ولم يعهدوا عليه كذباً أو خيانة، فكيف يتنكرون لحكمهم السابق ومعرفتهم القديمة ؟!! ويعبّر عن ذلك بكلمة “صاحبكم” قال سبحانه وتعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى) (النجم،2).

وقال سبحانه وتعالى أيضاً:

(وما صاحبكم بمجنون) (التكوير،22).

وقد اتهم المشركون الرسول بأنه شاعر وبأنّ القرآن شعر فرد القرآن الكريم ذلك فقال سبحانه وتعالى:

(وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) (الحاقة،41).

وقال سبحانه وتعالى:

(وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) (يس،69).

ليس من شك بأنّ رسوخ البيان العربي وانتشاره في العرب المعاصرين للبعثة هو الذي ولد يقينهم بإلهية القرآن الكريم، وهو الذي أعطى تحدي الوحي لهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة مثله معنى حقيقياً، وهو الذي جعلهم يستشعرون معجزة القرآن البيانية، ويؤكد ذلك موقفان: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي دخل في الإسلام بسبب سماعه بعض آيات من القرآن الكريم، وموقف الوليد بن المغيرة الذي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليثنيه عن دعوته فأسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الآيات فرقّ لها فقال عن القرآن الكريم: “فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إنّ لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى عليه” (رواه ابن جرير).

برز التشكيك في إلهية القرآن الكريم في مرحلة مبكرة من التاريخ في بداية العصر العباسي، وسميت الفرقة التي شككت في إلهية القرآن الكريم بـ “فرقة الزنادقة”، وكان أبرز من رد عليهم أحمد بن حنبل -رحمه الله- في رسالته المسماة “رسالة الرد على الزنادقة والجهمية” فبدأ رسالته بالحديث عن “بيان ما ضلت به الزنادقة من متشابه القرآن” وأورد عدداً من الآيات التي زعم الزنادقة أنها متناقضة ثم بين عدم تناقضها واتساقها مع بعضها. والآية الأولى التي تناولها أحمد بن حنبل هي قوله سبحانه وتعالى:

(كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) (النساء،56).

فبين أنّ الزنادقة فهموا منها أنّ الله سبحانه وتعالى يعذب جلوداً لم تذنب فوضح لهم أحمد بن حنبل أنّ تبديلها تجديدها، ثم زعم الزنادقة أنّ هناك تناقضاً بين قوله سبحانه وتعالى:

(هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (المرسلات،35-36).

وبين قوله سبحانه وتعالى:

(إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) (الزمر،31).

فرد عليهم أحمد بن حنبل بأنّ لكل آية مقاماً، كما زعموا أنّ هناك تناقضاً بين قوله سبحانه وتعالى:

(ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً) (الإسراء،97)، وبين قوله سبحانه وتعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) (الأعراف،50).

وأنّ هناك تناقضاً بين قوله سبحانه وتعالى:

(فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) (المؤمنون،101)، وبين قوله سبحانه وتعالى:

(فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) (الصافات،50).

ثم سرد أحمد بن حنبل عدداً آخر من الآيات التي ظنوا أنّ بعضها يناقض بعضاً، وقد ناقش معهم سبع عشرة مسألة أثاروها.

تعرضت قضية إلهية القرآن الكريم إلى التشكيك في العصر الحديث كما تعرضت إلى ذلك في العصور السابقة إن لم يكن بصورة أشد، وقد أشار الدكتور محمد البهي في كتابه “الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي” إلى كتابين هما: “المذهب المحمدي” للمستشرق جب، و “في الشعر الجاهلي” لطه حسين تعرضا لقضية إلهية القرآن الكريم تحت فكرة “بشرية القرآن”، التي عرضت في إحدى صورتين:

“الصورة الأولى: إنه (أي القرآن الكريم) انطباع في نفس محمد صلى الله عليه وسلم نشأ عن تأثير بيئته التي عاش فيها، بمكانها وزمانها، ومظاهر حياتها المادية والروحية.

الصورة الثانية: إنه (أي القرآن الكريم) تعبير عن الحياة التي عاش فيها محمد بما فيها المكان والزمان، وجوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والمدنية والاجتماعية” (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور محمد البهي، ص203).

ثم يلخص الدكتور محمد البهي رأي المستشرق جب في “بشرية القرآن” وكونه انطباعاً بشأن تأثير بيئته فيقول: “إنّ جب يرى: أنّ جو مكة بما فيه من زعامة اقتصادية وسياسية ثم بما فيه من عيوب اجتماعية كالرق والفوارق البعيدة المدى بين الطبقات، هو الذي أثر في نفس محمد صلى الله عليه وسلم ليكون صاحب ثورة. فالحياة المكية بما فيها من عوامل إيجابية وأخرى سلبية قد تفاعلت في نفسه، وهو يرتبط في رسالته بهذه الحياة أيما ارتباط بحيث لو كان رجلاً غير مكي لما صادف هذا النجاح” (الكتاب السابق، ص204). ثم ينتهي الدكتور محمد البهي من التعليق على كتاب “المذهب المحمدي” للمستشرق جب، فيقول: “والقرآن كما يريد جب أن يقول إذن: هو من عمل إنسان معين هو محمد، عاش حياة خاصة وهي حياة المكيين، وتبلورت حياته الخاصة فيما قال فيه” (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور محمد البهي، ص209).

ثم يلخص الدكتور محمد البهي فكرة “بشرية القرآن” كما عرضها الدكتور طه حسين فيقول (ص212): “يقوم هذا الكتاب على فكرة واحدة هي: أنّ الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام أي لا يمثل الحياة التي عاش فيها الرسول قبل الرسالة بما فيها من جوانب وأجواء، إذ هو شعر مصطنع منتحل، ولهذا لا يعبر عن حقائقها ولا عما دار فيها. فهو في جملته يعبر عن حياة جاهلية فيها غلظة وخشونة، وبعيدة عن التحدي السياسي والنهضة الاقتصادية والحياة الدينية الواضحة، مع أنّ حياة إلى في الجاهلية كانت حياة حضارية والعرب كما يقول طه حسين: لم يكونوا على غير دين ولم يكونوا جهالاً غلاظاً، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى . . . كذلك يمثله القرآن” ثم ينتهي الدكتور البهي إلى القول: “ومنطق المؤلف: بما أنّ الشعر الجاهلي لا يصح أن يكون مرآته صافية للحياة الجاهلية وهي الحياة التي نشأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام بدعوته، وكافح من أجل هذه الدعوة فيها فالشيء الذي يعبّر عن هذه الحياة تعبير صدق وموثوق به كل الثقة هو القرآن . . . (فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي)”. ثم يقول الدكتور محمد البهي في موضع آخر من كتابه “فالقرآن مؤلف ومؤلفه نبيه محمد!!! ويمتاز تأليفه بأنه يمثل حياة العرب المحدودة في شبه جزيرة العرب، في اتجاهات حياتها المختلفة: السياسية، والاقتصادية، والدينية.

        ومنهج دراسة الحياة الجاهلية للعرب قبل الإسلام دراسة علمية، كما يدور عند صاحب كتاب “الشعر الجاهلي” بين أمرين لا ثالث لهما: بين ما يسمى بالشعر الجاهلي، وبين القرآن، كلاهما للإنسان، وكلاهما يتحدث عن الحياة العربية الجاهلية، لكنه استبعد الشعر الجاهلي واختار القرآن لهذه الدراسة لأنه صادق في كونه (انطباعاً) دقيقاً لهذه الحياة.

        القرآن إذن مصنوع مؤلف!!! هو مرآة لأفق خاص من الحياة، هو أفق الحياة في شبه الجزيرة العربية في مكة بوجه خاص!!!”.

ومن صور التشكيك التي تعرضت لها قضية “إلهية القرآن” في العصر الحديث على يد غلاة القوميين العرب اعتبارهم القرآن الكريم إفرازاً من إفرازات الذات العربية وتعبيرا عن العبقرية العربية، وتجلياً من تجليات الروح العربية، ولا شك أنّ مثل هذا التصور عن القرآن يلغي أية إلهية عنه، ويجعل الذات العربية تعيش وهم القدرة على إفراز مثل تلك الرسالة أو مثل ذلك الكتاب في أوقات أخرى.

        هذا عن بعض التشكيكات التي تعرضت لها قضية إلهية القرآن الكريم في العصر الحديث، أما عن الوجه الآخر لقضية إلهية القرآن الكريم وهو الموقف من اللسان العربي وبيانه في القرن الماضي فنجد أنّ الهدم مورس بحق اللغة العربية بشكل لا يقل عن التشكيك في إلهية القرآن الكريم، ومن هذا الهدم اتهام اللغة العربية بالجمود وبالعجز عن مجاراة تطورات العصر، وبأنها لغة غير علمية، وبأنّ نحوها معقد، وإملاءها صعب الخ. . . واقترحت حلول في منتهى الغرابة، منها: الكتابة بالعامية وترك الفصحى، واستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وتغيير قواعد النحو والإملاء الخ. . . وبالفعل مارس بعض الأشخاص والمؤسسات خطوات في ترجمة تلك الحلول، فأصدر بعضهم ديواناً بالحرف اللاتيني، وكتب بعضهم روايات باللغة العامية، وأقرّ بعضهم نحواً ذا مصطلحات جديدة منقولة عن النحو الانكليزي في بعض المراحل الدراسية الخ. . .

لذلك يجب على قيادات الأمة، من أجل تصحيح الأوضاع السابقة ترسيخ اللغة العربية وبيانها، وتعميق وجودها في التربية والإعلام، ففي ذلك تثبيت لعنصر رئيسي من عناصر شخصية الأمة من جهة، وتفعيل لمناخ استشعار معجزة القرآن البيانية وإلهية القرآن الكريم من جهة ثانية.

 

اترك رد