بدأت الانتفاضة عامها الخامس في 28 ايلول “سبتمبر” 2002، وقد كتب عدد من الباحثين عن نُبْل الظاهرة، وعن إيجابيّاتها وسلبيّاتها، وعن مستقبلها، وعن الخسائر التي ألحقتها بالعدو الصهيوني إلخ… ومن الملاحظ أنّ الجديد في الانتفاضتين الأولى والثانية هو مشاركة الإسلاميين فيهما ودورهم الرئيسي فيهما، لكنّ الملاحظ أنّ هذه المشاركة لم تغيّر من بعض القواعد التي رسّختها حركة فتح في مجال العمل الفلسطيني، وأبرزها ترسيخ دعوى استقلال القرار الفلسطيني، وتهميش الدور العربي في اتخاذ أيّ قرار، والمثال الواضح في ذلك التوصّل إلى اتفاق أوسلو مع اسرائيل دون أيّة مشاورات عربية، ودون أيّ اتفاق عربي.
ومن الملاحظ أنّ هذا التوجّه جديد في مجال القضية الفلسطينية، ولم تعرفه منذ تبلورها في مطلع القرن العشرين، فقد اعتمدت الحركات الفلسطينية التي تشكّلت منذ مطلع القرن العشرين على الأبعاد الثلاثة الفلسطيني والعربي والإسلامي، ويتّضح ذلك من خلال سيرة أبرز شخصية قادت القضية الفلسطينية في النصف الأول من القرن العشرين وهو: الحاج أمين الحسيني، الذي بدأ عمله بعقد مؤتمر إسلامي في القدس في عام 1931، ودعا إليه مختلف شخصيّات العالم الإسلامي، واستلم أمانته العامة، ثم أنشأ الهيئة العربية العليا، ولم تكن القضية الفلسطينية مستقطبة للشخصيّات العربية بل كانت فاعلة في القضايا العربية، فذكرت الوقائع أنّ الحاج أمين الحسيني استفاد من مركزه في القضية الفلسطينية، فحرّك الأحداث الداخلية في بعض الدول العربية، وأبرز مثال على ذلك انقلاب عالي رشيد الكيلاني في العراق على الانجليز لصالح الألمان عام 1941 الذي ساهم الحاج أمين الحسيني فيه، وهرب بعد أن فشل ذلك الانقلاب.
وكان هناك تداخل كامل بين البعد العربي والفلسطيني في القضية الفلسطينية، فقد ساهمت شخصيّات عربية على المستوى الحكومي وعلى المستوى الشعبي في القضية الفلسطينية. فعلى المستوى الحكومي ساهمت شخصيّات من العراق وسورية ومصر ولبنان والسعودية في توجيه أحداث القضية الفلسطينية، وعلى المستوى الشعبي ساهمت شخصيّات متعدّدة في القضية الفلسطينية وأبرزها عز الدين القسّام الذي جاء حيفا هارباً من ملاحقة الفرنسيين في سورية، وأنشأ حركة جهادية صارعت اليهود والانجليز ولم تنته باستشهاده عام 1935م في أحراج يعبد بل استمرّت فاعلة، فأجّجت ثورة 1936م، والتي انتهت بقيام الحرب العالمية الثانية عام 1939م.
إنّ هذا التداخل في القضية الفلسطينية بين الأبعاد الثلاثة: الفلسطيني والعربي والإسلامي قطعته حركة فتح منذ إنشائها، وساعدها على ذلك الوضع العربي بعد هزيمة عام 1967م، والذي أراد أن يتخفف من أعباء القضية الفلسطينية، فسلّم عبد الناصر منظمة التحرير الفلسطينية لحركة فتح بعد معركة الكرامة عام 1968م.
ربما كان هذا القطع ليس مفاجئاً وغريباً من قبل حركة فتح، بل منطقياً، لأنها قامت على مفاهيم فلسطينية لتسدّ ثغرة أقامتها الأنظمة العربية حيث ضمّت أمارة شرق الأردن الضفة الغربية وشكّلت المملكة الأردنية، وضمّت مصر غزّة، ولم يعد هناك شيء اسمه فلسطين، لكن حركة فتح قابلت خطأ الدول العربية بخطأ آخر، فمثلما غيّبت الأنظمة العربية كل شيء فلسطيني، كذلك غيّبت فتح كل شيء عربي وإسلامي، ثم استمرّت حركتا حماس والجهاد اللتين شاركتا في الانتفاضتين في متابعة موقف حركة فتح من البُعد العربي والإسلامي، أو قل بصورة أدقّ لم تغيّرا ذلك الموقف، مع أنّ منهجهما منبثق عن الإسلام الذي يعتبر الأمّة الإسلامية هي التشكيل البشري الطبيعي الذي يتحرّك فيه كل مسلم وكل جماعة مسلمة.
يجب الإقرار -في النهاية- بأنّ الانتفاضة في عامها الخامس والتي تجلّت في تضحيات عظيمة من قِبَل الشعب الفلسطيني، وفي وحشيّة غير مسبوقة من قِبَل العدو الصهيوني، لن تؤتي ثمارها السياسية إلا بالتكامل والتفاعل مع محيطها العربي والإسلامي، ويجب الإقرار -مرّة أخرى- بأنه لا يتحمّل العرب والمسلمون ودولهم فحسب مسؤولية الخلل، بل تتحمّل الحركات الإسلامية جانباً من ذلك، تلك الحركات التي دخلت المعترك في العمل الفلسطيني برؤية إسلامية ولم تصحّح خطأ حركة فتح حتى الآن، ولم تضع الآليّات المناسبة لسدّ ذلك النقص في التعامل والتكامل العربي والإسلامي مع وضوح استعداد الجماهير لذلك والذي تجلّى في المسيرات المليونية غداة أحداث جنين عام 2002م.
* نشر هذا المقال في جريدة “الحياة” بتاريخ 18/10/2004م في صفحة (أفكار).