الانتفاضة الثانية: ما المطلوب منها؟
سقطت الخلافة العثمانية عام 1924م بعد الحرب العالمية الأولى ووقع الانفصام بين الجنسين اللذين كانا يشكلان هذه الخلافة وهما: العرب والأتراك، وقامت قيادات قومية تركية قادت الأتراك، وقامت قيادات قومية عربية قادت العرب، وأصبحت القومية العربية هي الايديولوجية التي تحرك الدول التي انفصلت عن الخلافة العثمانية، واستهدف الفكر القومي الوحدة والاستقلال والحرية والرفاه الاقتصادي إلخ…
لكن لم يتحقق أي هدف من تلك الأهداف، بل استمرت التجزئة، وزادت التبعية العربية، واستفحلت الأزمة الاقتصادية، ومما زاد الطين بلة أن اسرائيل قامت عام 1948م على معظم فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني، وقد استوجب نشوء اسرائيل مراجعة الأمة لوضعها بخصوص أمرين:
القيادات القومية التي كانت على رأس الجهاز التنفيذي آنذاك، والفكر القومي العربي الذي كان يحكم الأمة آنذاك، وبالفعل تمت المراجعة فتتالى سقوط القيادات التي عاصرت ضياع فلسطين في سورية ومصر والأردن ولبنان إلخ…، لكن الأمر جاء على العكس بخصوص الفكر القومي العربي الذي كان يقود الأمة، فقد ازداد رسوخاً بعد مجيء ثورة عام 1952م في مصر وقيادة عبد الناصر لها، إذ انتهج عبد الناصر نهجاً قومياً عربياً، واستطاع أن يعمم الفكر القومي العربي على معظم البلدان العربية في المشرق والمغرب، لكن هذه القيادات القومية وجدت نفسها تواجه أزمة جديدة مع اسرائيل تتمثل في عزم اسرائيل على تحويل منابع نهر الأردن عام 1964م وأبرزها نبع الدان، فدعا جمال عبد الناصر في يناير/كانون الثاني عام 1964م إلى مؤتمر قمة لبحث تلك القضية، واتخذ المؤتمر عدة قرارات أبرزها إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وأعطى زعامتها إلى أحمد الشقيري، وأعلن أن الهدف من إنشائها إيجاد غطاء رسمي يمثّل الفلسطينيين، لكن الهدف الحقيقي غير المعلن هو إيجاد مخرج لأزمة القيادات القومية في عجزها عن مواجهة اسرائيل في تحويلها منابع نهر الأردن، ثم مثّلت منظمة التحرير الفلسطينية مخرجاً آخر لزعامة عبد الناصر إثر نكسة حزيران عام 1967م، فأزاح جمال عبد الناصر أحمد الشقيري عن رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية بعد معركة الكرامة في مارس/آذار عام 1968م، وسلمها إلى ياسر عرفات لعل العمل الفدائي الذي بدأته حركة فتح عام 1965م يساعد في امتصاص جانب من نقمة الجماهير وإثر نكسة حزيران التي دمرت فيها اسرائيل ثلاث جيوش عربية هي: جيوش مصر، وسوريا، والأردن، واحتلت أراضي واسعة هي: سيناء، وغزة، والضفة الغربية. واستمرت فتح مكونة العمود الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى أن وقعت الانتفاضة عام 1987م، ومثّلت تلك الانتفاضة نقلة نوعية في تاريخ القضية الفلسطينية، حيث ظهر البعد الإسلامي بعد أن غُيِّبَ حوالي ثلاثين سنة، وظهرت قيادات داخلية بعد أن كانت القيادات الخارجية هي المستأثرة بقضية فلسطين، وكان يمكن أن تكون انتفاضة عام 1987م نواة تحرير حقيقية لولا قيادات منظمة التحرير التي أجهضتها باتفاقات أوسلو عام 1993م، وقد قامت تلك الاتفاقات على أساس واحد هو: الأرض مقابل السلام، تنفيذاً لقرارات الشرعية الدولية المتمثلة بالقرارين 242 و 338، وقد حدثت عشرات اللقاءات والاتفاقات من أجل تنفيذ اتفاق أوسلو من مثل اتفاق القاهرة، وطابا، وشرم الشيخ، والخليل، وواي ريفر إلخ…، لكن الأرض لم تعد، والسلام لم يقم، والسبب في ذلك تهافت الأسس التي قامت عليها اتفاقات أوسلو وأولها: الأرض مقابل السلام، فقد ثبت أن اسرائيل أرادته في المرحلة الأولى: الأرض مقابل الاستسلام، وبعد أن استسلمت منظمة التحرير لها: فقبلت بسلطة دون سيادة، ودون حق تقرير مصير، ودون جيش، ودون سيطرة على منافذ الحدود، ودون اقتصاد مستقل إلخ… رفضت اسرائيل تسليمها الأرض، وأصبحت المعادلة: المطلوب من الفلسطينيين الاستسلام دون الأرض، وهذه نتيجة يجب أن نتوقعها من اليهود قتلة الأنبياء وهي غدرهم وخيانتهم لأية اتفاقات وعهود، وهم الذين خانوا العهود مع الله ومع أنبيائهم بدءاً من موسى وانتهاء بعيسى عليهما الصلاة والسلام؛ فكيف لا تكون منهم خيانة وغدر مع بشر مثلنا؟؟!!
ثم جاءت الانتفاضة الثانية التي اشتعلت في 28 سبتمبر/أيلول عام 2000م احتجاجاً على المفاوضات السابقة، وردّاً على التعثر والمنطق السابقين، لذلك يجب أن تعيد الانتفاضة النظر في ثلاثة أمور من أجل أن لا تنتهي كما انتهت سابقتها، وهذه الأمور هي:
الأول: القواعد التي قام عليها استرداد الأرض.
الثاني: القيادات التي قادت القضية الفلسطينية.
الثالث: المنهج الذي حكم القضية الفلسطينية.
أما بالنسبة للأمر الأول فقد أرادت منظمة التحرير الفلسطينية استعادة الأرض –كما رأينا- من خلال التفاوض على قاعدة: الأرض مقابل السلام، لكن اتفاقات أوسلو حوّلت هذه القاعدة إلى الأرض مقابل الاستسلام، ثم كانت النتيجة التي انتهت إليها منظمة التحرير الفلسطينية هي الاستسلام دون أرض، وكان المفروض أن تعيد تلك النتيجة مفاوضي أوسلو إلى صوابهم، ويقيموا أسساً جديدة للتعامل مع العدو الصهيوني، ولكن أنّى لهم ذلك وهم الذين أعمتهم أوهام السلطة، والمصالح الشخصية عن رؤية الحق وفعل الصواب، لذلك قامت الانتفاضة الثانية لتؤكد أن الأرض التي اغتصبها العدو الصهيوني لا يمكن أن تعيدها المفاوضات، وإنما تعيدها الدماء والتضحيات والبذل والعطاء والاستشهاد، لذلك فالمطلوب الآن من الانتفاضة الثانية أن ترسخ هذه القاعدة حتى تحقق أهدافها في استرداد الأرض من العدو المغتصب.
أما بالنسبة للأمر الثاني فإننا نتطلع إلى أن تفرز الانتفاضة الثانية قيادات جديدة للقضية الفلسطينية غير القيادات السابقة التي ثبت أنها فرطت بثوابت الأمة عندما اعترفت بوجود اسرائيل وبشرعية الدولة العبرية في الرسائل المتبادلة بين ياسر عرفات واسحاق رابين عشية توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993م، ولم تأخذ مقابل ذلك على الأقل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وفرطت مرة ثانية عندما شطبت بنوداً من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية تتعلق بتحرير كل فلسطين من الدولة العبرية وبإلغاء الجهاد مع أن اسرائيل ما زالت تحتل كثيراً من أراضينا، وما زالت تهدد العالم العربي والأمة الإسلامية، نتطلّع أن تفرز الانتفاضة الثانية قيادات جديدة تلتزم بثوابت الأمة وعقيدتها وتطلعاتها وآمالها بعيداً عن لوثات التفريط وأوهام الثقة بالعدو.
أما بالنسبة للأمر الثالث فإننا نتطلّع أن ترسخ الانتفاضة الثانية نهجاً يقوم على اعتماد منطق الأمة واستبعاد المنطق القطري الذي يعتبر أن فلسطين خاصة بالفلسطينيين، وهو ما أدى إلى توقيع اتفاق أوسلو الذي مازلنا نعاني من شروره وآثامه، بحجة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، لأنه إذا استمر هذا المنطق القطري حاكماً لقضية فلسطين ولقضايا المنطقة العربية فإننا نتوقع أن يؤدي ذلك إلى قيام اسرائيل الكبرى وليس فقط ترسيخ دولة اسرائيل الحالية، لأن كل دولة وحدها أضعف من اسرائيل وليس بمقدورها مواجهتها، ولكن عندما نعي وندرك أن الأمة التي تسكن المنطقة العربية أمة واحدة، ذات لغة واحدة، وتاريخ مشترك، وتؤمن برب واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة، وهي ذات عادات وتقاليد واحدة إلخ… عندما نعي ذلك وندركه، وننطلق من هذه الحقائق، تصبح حينئذ قضية فلسطين قضية الأمة الإسلامية وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ويصبح الواجب على الأمة كلها أن تواجه اسرائيل، ويصبح دور الفلسطينيين جزءاً من دور الأمة في مواجهة العدو الصهيوني، وتصبح الأرض والمقدسات ملكاً للأمة وليس ملكاً لأهل فلسطين وحدهم، وتصبح الأمة هي المخولة وحدها باتخاذ أي قرار يتعلق بأرض فلسطين ومقدساتها، وهذا ما حدث عندما احتل الصليبيون القدس عام 1099م، فتصدت لهم الأمة متمثلة بالأسرة الزنكية التي انطلقت من إمارة الموصل، ثم تصدت لهم الأسرة الأيوبية التي ورثت الأسرة الزنكية، وكانت تظلّل الجميع الخلافة العباسية، ثم تحقق الانتصار بسبب أن الأمة هي التي واجهت الغزاة الصليبيين وليس أهل فلسطين وحدهم، وكذلك الآن سيكون الانتصار بإذن الله عندما يصبح واجب تحرير فلسطين ليس واجب أهل فلسطين وحدهم، إنما هو واجب الأمة الإسلامية كلها، لذلك على الانتفاضة الثانية أن ترسّخ هذا المنطق، وتلغي المنطق القطري إلى غير رجعة.
لابد لنا من أن نعي دروس الماضي حتى نحسن بناء الحاضر والمستقبل، وأبرز دروس الماضي: خطأ القواعد التي قام عليها استرداد الأرض، وتفريط القيادات السابقة، وقصور المنهج القطري الذي اعتمدته القضية الفلسطينية خلال المرحلة الماضية، لذلك فإن المطلوب من الانتفاضة الثانية ترسيخ أساس البذل والعطاء والدماء والاستشهاد من أجل استرداد الأرض، وكذلك فإن المطلوب من الانتفاضة الثانية فرز قيادات جديدة مرتبطة بثوابت الأمة وعقيدتها، وكذلك فإن المطلوب من الانتفاضة الثانية اعتماد منطق الأمة في التعامل مع القضية الفلسطينية واستبعاد المنطق القطري.