لقد تمزق الاتحاد السوفيتي الذي كان يتبع النهج الشيوعي في بداية التسعينات، وأدلى كتاب مختلفون وعقائد متباينة بدلوها في تعليل سبب تمزق الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية، وربما يكون من المفيد أن نستعرض رأي الإسلام في ظاهرة تمزق الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية وهذا ما سأحاول القيام به في السطور التالية.
يعتبر الإسلام أنّ الشرك أكبر عدو للإنسان والمجتمعات، قال تعالى: (ومَن يُشْرِك باللهِ فقد ضَلَّ ضَلالاً بعيداً) (النساء، 116)، ويعتبره أكبر إثم يمكن أن يقع فيه العبد، قال تعالى: (إنّ اللهَ لا يغفِرُ أن يُشْرَكَ بِه ويغفِرُ ما دونَ ذلك لِمَن يشاءُ) (النساء، 116)، كما يعتبر أنّ الشرك استلاب لعقل الإنسان ونفسيته لأنه سعي وراء أوهام لا تملك قوة حقيقية، قال تعالى: (ويعبدونَ مِن دون اللهِ ما لا يضُرُّهُم ولا ينفَعُهُم ويقولونَ هؤلاءِ شُفَعاؤنا عندَ اللهِ) (يونس، 18)،
وقال تعالى: (قُل أرأيتم ما تَدْعونَ مِن دونِ اللهِ أَروني ماذا خَلَقوا مِنَ الأرضِ أَمْ لهم شِرْكٌ في السماواتِ ائتوني بكتابٍ مِن قبلِ هذا أو أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إن كنتم صادقينَ) (الأحقاف، 4)، وقال تعالى: (قُل أرأيتم شُرَكاءكم الذين تدعونَ مِن دونِ اللهِ أروني ماذا خَلَقوا مِنَ الأرضِ أم لهم شِرْكٌ في السماواتِ أم آتَيْناهُم كِتاباً فهم على بَيِّنَةٍ منه بل إن يَعِدُ الظالِمون بعضُهُم بعضاً إلا غُروراً) (فاطر، 40)،
ويعتبر الإسلام استحكام الشرك والكفر والإلحاد في المجتمعات السابقة هو سبب إهلاك الله لها، لذلك فإنّ الله أهلك قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم مدين وقوم فرعون عندما رفضوا التوحيد وأصروا على شركهم وكفرهم، والآيات أكثر من أن تحصى في هذا المجال.
ويعتبر الإسلام التوحيد من الفطرة التي فطر الخلق عليها، وأشهدهم على هذه الحقيقة وهم في عالم الذر، فقال تعالى: (وإذْ أخذ ربُّك مِن بني آدمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَتَهُم وأشْهَدَهم على أنفسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم، قالوا بَلى شَهِدْنا، أن تقولوا يومَ القيامةِ إنّا كُنّا عن هذا غافِلين) (الأعراف، 172)،
ومما يؤكد رسوخ فطرة التوحيد في قلب الإنسان أنه يرجع إلى ربه عندما تتأزم الأمور حوله، قال تعالى: (قُل مَن يُنَجِّكُم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبحرِ تدعونَهُ تَضّرُّعاً وخُفْيَةً لئِنْ أنجانا مِن هذه لنكونَنَّ مِنَ الشاكِرينَ . قُل اللهُ يُنَجِّكُم مِنها ومِن كلِّ كَرْبٍ ثم أنتم تُشْرِكون) (الأنعام، 63،64).
لذلك عندما قام الاتحاد السوفيتي على الإلحاد، وألغى التعبد من حياة الأفراد والمجتمع ناقض الفطرة في توجه رئيسي لها وهو معرفة الله والتعبد والتوحيد، والأرجح أنّ الاتحاد السوفيتي هو أول مجتمع بشري يقوم على إنكار وجود الله وإلغاء التعبّد في حياته العامة، صحيح أنّ البشرية عرفت أفراداً ملحدين لا يؤمنون بالله ولا يتعبدون، وصحيح أنها عرفت ألواناً شتى من الآلهة: كالكواكب، والأشخاص، والطبيعة الخ…، وصحيح أنها عرفت صنوفاً شتى من صور العبادة والتقرب إلى الله: كالركوع، والسجود، والذبح، والنذر الخ…، لكنها لم تعرف مجتمعاً أنكر وجود الإله وأقام حياة اجتماعية على ذلك الإنكار، لأنّ الدراسات الأثرية أثبتت أنّ المعبد ركن أساسي في أي مجتمع بشري، لذلك يعتبر الإسلام أنّ الشيوعية صادمت الفطرة في أصل عظيم من أصول كينونتها وهو: معرفة الرب وعبادته وتوحيده لأنّ كل هذه الأمور من الفطرة في نظر الإسلام، ولاشك أنّ هذا التصادم كان أحد العوامل التي ساهمت في انهيار الاتحاد السوفيتي.
يعتبر الإسلام أنّ الله فطر الإنسان على حب التملك، فقال تعالى: (زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشهواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنينَ والقَناطيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهبِ والفضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والحَرْثِ ذلك مَتاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عندَهُ حُسْنُ المَئَابِ) (آل عمران، 14)، كما أشار القرآن الكريم إلى حب الإنسان للمال، فقال تعالى: (وإنَّهُ لحُبِّ الخيرِ لشديدٌ) (العاديات، 8)، وقال أيضاً: (وتُحِبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر، 20)، ومما يوضح عمق غريزة حب التملك عند الإنسان أنّ الشيطان عندما أراد أن يجعل آدم يعصي الله بأن يأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، أوهمه بأنّ الأكل سيحقق له أمرين: أحدهما الحصول على ملك لا يبلى، قال تعالى: (هل أَدُلُّكَ على شجرةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى) (طه،120).
لقد قامت الشيوعية على فكر نقيض للأصل السابق، فقد اعتبرت الشيوعية أنّ غريزة التملك مكتسبة وليست فطرية، لذلك فإنّ المرحلة النهائية في حياة المجتمع البشري ستكون المرحلة الشيوعية التي تقوم على قاعدة من كلّ حسب طاقته ولكلّ حسب حاجته، والتي سيمتلك المجتمع فيها كل شيء ولا يمتلك أحد شيئاً معيناً، وقد أباح الاتحاد السوفيتي قدراً محدوداً من الملكية على أن يكون التوجه نحو إلغاء التملك مع مرور الزمن وعلى أن تكون الاشتراكية ممهدة للمرحلة الشيوعية التي سينتهي فيها التملك من حياة البشر.
لقد صادمت الشيوعية في المرحلة الاشتراكية الفطرة في أصل آخر من أصول كينونتها وهو حب التملك، لذلك كلّف هذا التصادم البشرية ملايين الضحايا من أجل إلغاء التملك في روسيا في مرحلة الستالينية حيث ثار الفلاحون على انتزاع أموالهم ومواشيهم وأراضيهم منهم.
يرى الإسلام أنّ الإنسان له جانبان فردي وجماعي، وقد حرص الإسلام على تلبية الجانبين، لذلك نجد أنّ الإسلام واجه المجتمع الجاهلي الذي كانت تسيطر فيه القبلية وتلزم أبناءها بسلوك جماعي واحد غير معقول يمثله قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت *** غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
واجه الإسلام ذلك السلوك القبلي فطلب من الفرد ألا يكون إمّعة فقد قال الرسول r مخاطباً المسلمين: “لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي)، واعتبر الإسلام أنّ المسؤولية فردية يوم القيامة لا ينفع الابن أباه فيها، ولا الأب ابنه، فقال تعالى: ]وكُلَّ إنسانٍ ألزَمناهُ طائرهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ مَنْشوراً. اقرأ كتابَكَ كفى بنفسِكَ اليومَ عليك حسيباً[ (الإسراء،13،14)، وكذلك اعتبر القرآن أنّ الإساءة تلحق بصاحبها وحده ولا تضر غيره، فقال تعالى: ]أمْ لم يُنَبَّأْ بما في صُحُفِ موسى. وإبراهيمَ الذي وَفّى. ألاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى[ (النجم، 36-38)، وقد نعى على العرب الجاهليين والأمم السابقة تقليدهم آباءهم وعدم اتباعهم الحق ولو كان بعيداً عن آبائهم، فقال: ]وإذا قيلَ لهم اتَّبِعوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالوا بل نتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عليهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُم لا يعقِلونَ شيئاً ولا يهتدونَ[ (البقرة،170).
لكن الإسلام الذي اعتبر المسؤولية فردية ونعى تقليد الآباء طلب من المسلم ـ في الوقت نفسه ـ أن يلتزم الجماعة، واعتبر خروجه منها خلعاً للإسلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من فارق الجماعة قيد شبر خلع ربقة الإسلام من عنقه” (رواه ابن أبي عاصم في السنة)، وأوجب عليه واجبات نحو هذه الجماعة أبرزها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم” (رواه الترمذي وابن ماجه)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنّ الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك، عذب الله الخاصة والعامة” (رواه أحمد)، وقد جاءت العبادات مغذية الجانبين الفردي والجماعي في الكيان الإنساني، فقد أوجب الشرع على المسلم أن يؤدي الفروض والجمعة والعيدين في جماعة، واستحب الشرع أن يؤدي المسلم كثيراً من الطاعات والسنن منفرداً، كل ذلك مراعاة للفطرة واستجابة لها.
لكن الشيوعية ضخمت الجانب الجماعي على حساب الجانب الفردي في كيان الإنسان، وألغت ذاتية الإنسان، واعتبرته ترساً في دولاب المجتمع، واعتبرت أنّ تطور وسائل الإنتاج هي التي تقرّر كل شيء: الدين، والأخلاق، والعادات، والفنون، والثقافة الخ…، ولا دور للإنسان في ذلك إنما دوره أن يستقبل هذه التغييرات وينفذها، وركزت على مصلحة الطبقة العاملة على حساب مصلحة الأفراد، وقد تجسدت الطبقة العاملة في الحزب الذي ابتلع كل شيء في الحياة السوفيتية. لقد صادمت الشيوعية الفطرة في تضخيم الجانب الجماعي على حساب الجانب الفردي، فشكّل هذا التضخيم مشكلة أخرى واجهت الاتحاد السوفيتي وأدت إلى انهياره.
إذن يعتبر الإسلام أنّ الشيوعية ناقضت الفطرة في عدة أمور: في إنكار التعبد، وفي إنكار فطرة حب التملك، وفي تضخيم الجانب الجماعي على حساب الفردي، ويعتبرها أسباباً رئيسية في انهيار الاتحاد السوفيتي بالإضافة إلى أسباب أخرى ليست من اختصاص هذا المقال.
انحطاط الأمم: الاتحاد السوفيتي نموذجاً