الإعجاز العلمي في القرآن.. تصويب الإتجاه

بلغت الآيات الكريمة التي تحدّثت عن مظاهر الكون والطبيعة والإنسان والحيوان والنبات ثلث القرآن الكريم، وهذا مبلغ عظيم، وقد ربط كثير من الباحثين في عصرنا الحاضر تلك الآيات ببعض النظريات العلمية والاكتشافات التي ظهرت في العصر الحديث، واعتبروا هذا إعجازًا علميًّا غير الإعجاز البياني الذي جاء به القرآن الكريم، والذي هو الأصل المجمع عليه في الإعجاز، ولكننا نجد عند البحث الدقيق أنّ هناك اعتسافًا في التعامل مع الآيات الكريمة التي ربطوها بالإعجاز العلمي.

 فهم اقتلعوها من سياقها الذي وردت فيه من أجل تأدية غرض معيّن، وربطوها بالنظرية العلمية التي اكتشفت حديثًا دون النظر إلى ما قبلها وما بعدها، وهذا خطأ كبير في فهم القرآن الكريم وفي التعامل معه، وبالإضافة إلى هذا يعتبر ذلك تجاوزًا للمقاصد والحِكَم والأهداف التي جاءت من أجلها تلك الآيات في السياق القرآني. وبالغ بعضهم في الإشادة بالإعجاز العلمي، فاعتبر أنّ الربط بين الآية الكريمة والنظرية الحديثة هو الذي أفهمنا إيّاها، وهذا اتهام للقرآن بأنه طلاسم وألغاز ومغاليق، كانت تُتلى من المسلمين طوال أربعة عشر قرنًا دون فهم أو استيعاب. 

وهذا غير صحيح فالقرآن الكريم كتاب عربي مبين، ويتميّز عن الكتب السماوية الأخرى بأنه كتاب علم وعقل، وتوصف معجزة القرآن الكريم الخالدة بأنها معجزة بيانية عقلية، وأنا سأقدّم ثلاثة أمثلة توضّح بعض الأخطاء التي وقع فيها باحثو الإعجاز العلمي:

الأول: قال تعالى: “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات،47).”

الحديث القرآني عن سعة السماء ليس المقصود منه طرح نظرية علمية لأنه انتزاع للآية من سياقها وليس هدفًا للسورة بحال من الأحوال، بل المقصود توجيه نظر الإنسان وقت نزول القرآن الكريم والآن وفي المستقبل إلى مشهد بديع يملأ العين والقلب بعشرات الأفكار والمشاعر.

أشار باحثو الإعجاز العلمي في القرآن الكريم إلى أنّ الآية “وإنّا لموسعون” أشارت إلى نظرية تمدّد الكون واتساعه التي اكتشفها العلم حديثًا، وهذا قول مجانب للصواب، وتحميل للآية ما لا يحتمله سياقها في السورة. فمن الواضح عند النظر إلى الآية في سياق سورة الذاريات أنّ الآية بدأت بمقطع يتحدّث عن بعض مظاهر قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وعن حكمة الله في خلق الأزواج فقال تعالى: “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ. وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (الذاريات،47-49).

وقد جاء هذا المقطع بعد إخبار الله لنا في المقطع السابق من السورة عن إهلاك عدّة أقوام، منها: قوم لوط، وقوم فرعون، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم نوح، ثم يأتي أمران للعباد بعد آيات إهلاك الأقوام، وآيات السماء والأرض والأزواج، هما: الفرار إلى الله، والتحذير من الإشراك معه شيئًا آخر، قال تعالى: “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (الذاريات،50-51)، وهذان الأمران مطلوبان لأنّ الله هو ربهم ومليكهم وخالقهم، وهو العظيم القادر على أن يحفظهم ويرعاهم، وأن يمدّهم بكل أسباب النماء والقوّة إلخ…، فمن الجليّ أنّ الحديث عن سعة السماء وما فيها من أفلاك ونجوم وكواكب ومجرّات إلخ… -وهي ظاهرة واضحة للعيان يراها الإنسان بشكل جليّ- يدل على عظمة الله وقدرته وجبروته وحكمته إلخ…، ويبني في قلب الإنسان تعظيم الله، وتقدير قدرته، ويدفعه للخضوع لله سبحانه وتعالى.

والجليّ أنّ الحديث عن سعة السماء ليس المقصود منه طرح نظرية علمية لأنه انتزاع للآية من سياقها وليس هدفًا للسورة بحال من الأحوال، بل المقصود توجيه نظر الإنسان وقت نزول القرآن الكريم والآن وفي المستقبل إلى مشهد بديع يملأ العين والقلب بعشرات الأفكار والمشاعر، ويبني الإنسان بناءً نفسيًّا إيجابيًّا نحو تعظيم الله والخضوع له والثقة به سبحانه وتعالى إلخ…، ويدفعه إلى الفرار إلى الله تعالى، وإلى عدم الإشراك به تعالى.

الثاني: قال تعالى: “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” (الأنبياء،30).

ربط كتّاب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بين قوله تعالى: “أنّ السماوات والأرض كانتا رتقًا ففتقناها” وبين نظرية الانفجار العظيم (Big Bang) التي اكتشفت مؤخّرًا، والتي قالت إنّ انفجارًا عظيمًا حدث في الفضاء قبل ملايين السنين، انفصلت بعده الأرض، وبدأت التشكّل، واعتبروا أنّ هذه الآية تشير إلى هذه النظرية، وكما قلنا سابقًا إنّ هذا اعتساف في استعمال النصوص، لأنّ الآية يجب أن يُنظر إليها من خلال السياق القرآني أي من خلال النظر إلى ما قبلها وما بعدها من الآيات لنفهم المعنى الذي تشير إليه، فنجد أنّ الآيات التي سبقت الآيات السابقة تحدّثت عن نفي الشريك لله تعالى، ثم جاءت بعدها آيات تحدّثت عن الأرض والجبال الرواسي، وعن الفجاج في هذه الجبال، وعن السماء والليل والنهار، وعن الشمس والقمر، قال تعالى: “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ . وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ . وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ . وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (الأنبياء،26-33).

وبالنظر في سياق آية “الانفجار العظيم”، نجد أنها لا تشير إلى مثل هذا بحال من الأحوال، بل إنها تشير هي والآيات التي بعدها إلى أنّ هناك إلهًا واحدًا هو الذي يدبّر نزول الماء ويقيم الجبال في الأرض، ويحفظ السماء من أن تقع على الأرض، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر من أجل استمرار الحياة، وأنّ وجود إله واحد هو الذي جعل الأمور السابقة متساوقة، ويكمل بعضها بعضًا، ولا يتناقض فيها أمران، ولا تتدافع ظاهرتان إلخ…، فالجليّ أنّ الحديث عن السماوات والأرض المقصود منه التدليل على وحدانية الله، ومما يؤكّد ذلك أنّ المفسّرين القدماء فسّروا الآية المذكورة فقالوا: إنّ السماوات والأرض كانت مغلقتين ففتحناهما، فالسماء فتحها الله بإنزال الماء منها، والأرض فتحها بأن انبثق النبات منها، ومما يدعم هذا التفسير هو انتهاء الآية بقوله تعالى: “وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون” وهي تشير إلى أنّ إنزال الماء من السماء هو السبب في حياة كل المخلوقات: الإنسان والحيوان والنبات.

الثالث: قال تعالى: “وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ” (الحديد،25).

من المعلوم أنّ الحديد معدن وصل من النيازك والشهب التي تسقط على الأرض من كواكب السماء وليس من معادن الأرض المخبوءة فيها، وقد توصّل العلماء إلى هذه النتيجة مؤخّرًا، وربط باحثو الإعجاز العلمي بين هذا الاكتشاف العلمي والآية القرآنية التي تقول: “وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس”، فلم يقل الله “وخلقنا الحديد” أو “وجعلنا الحديد”، فاعتبروا قوله تعالى: “وأنزلنا الحديد” إشارة إلى مجيئه من مكان آخر، وقالوا إنّ الآية تشير إلى هذه الحقيقة، لكنّ آخرين ردّوا عليهم فقالوا إنّ الله قال: “وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثمانية أزواج” (الزمر،6)، وقال: “يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا” (الأعراف،26)، فهل ذلك يعني أنّ الأنعام واللباس والريش أنزل من السماء؟ لا أحد يقول بذلك.

طالما أنّ هناك اعتسافًا وإسرافًا في الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فما هي الحِكَم والمقاصد والأهداف التي استهدفتها الآيات التي أشارت إلى الكون والطبيعة والإنسان والشمس والقمر والمطر والسحاب والجنين إلخ…؟ الحقيقة أنّ هناك عدّة حِكَم ومقاصد وأهداف من هذه الآيات، وهي قد تكون أجلّ وأسمى وأصوب وأجدى على الإنسان المسلم من الحديث عن الإعجاز العلمي، وهذه الحِكَم والمقاصد والأهداف هي:

الأول: البناء النفسي للمسلم:

استهدفت كثير من الآيات التي تحدّثت عن الطبيعة الإنسان والسماء والأرض والماء والريح إلخ… البناء النفسي للمسلم، وتوجيه قلبه إلى الله تعالى: تعظيمًا وخضوعًا وحبًّا وخوفًا ورجاء وثقة إلخ…، ويمكن أن نمثّل لذلك بآيات وردت في سورة إبراهيم، قال تعالى: “اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ . وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” (إبراهيم،32-34).

بدأت هذه الآيات بتقرير عدّة أمور هي: أنّ الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو تعالى الذي أنزل المطر الذي كان سببًا في نمو الشجر ونضج الثمر الذي أضحى طعامًا لنا، وهو الذي هيّأ الأسباب لتبحر السُّفُن عباب البحر، وهو الذي سخّر لنا عدّة مخلوقات: الأنهار والشمس والقمر والليل والنهار، ثم يبيّن الله لنا فضله علينا: وهو أنه آتى العباد من كل ما سألوه، مع أنّ نِعَم الله أجلّ أوسع من أن تحصى، ومع ذلك فإنّ الإنسان لا يحمد الله حق الحمد ولا يشكره حق الشكر بل هو ظلوم كفّار.

يقتضي تقرير الآية أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض من العدم على غير مثال سابق وهو خلق عظيم يحوي ملايين النجوم والأفلاك التي تسبح في الفضاء منذ ملايين السنين وإلى ما شاء الله، يقتضي تعظيمه تعالى.

ويقتضي إنزاله تعالى الماء من السماء أن نعظّمه تعالى لأنّ إنزال المطر تطلّب تبخير الماء، وإرسال الرياح، وتحميل السحاب، وحدوث البرق والرعد، تطلّب كل هذا وكثيرًا غيره نجهله، وهذا كله يقتضي تعظيمه تعالى، ويقتضي أن نحبّه تعالى لأنه أنعم علينا بهذه النعمة التي ترتبط حياتنا بها أشدّ الارتباط طعامًا وشرابًا، وأن نرجوه تعالى في أن يستمرّ في إنزاله علينا، وأن نخافه تعالى من أن يحرمنا منه.

ويقتضي تسخيره تعالى لنا الفلك التي تمشي الهوينى على سطح الماء، أن نعظّمه تعالى لأنّ سيرها احتاج إلى عشرات الموافقات، وأن نحبّه تعالى لأنّ نعمة استخدام السفن نعمة عظيمة ندرك قيمتها لو تخيّلنا عدمها كم ستصبح الحياة شاقة وصعبة.

ثم يخبرنا تعالى أنه سخّر لنا الأنهار، ويقتضي هذا التسخير أن نحبّه تعالى لأنه هيّأ لنا هذه النعمة فنشرب ماءها، وتشرب منها بهائمنا، ونسقي بها زروعنا، ونركبها في انتقالنا.

ثم يخبرنا تعالى أنه سخّر لنا الشمس والقمر وما ينجم عنهما من ليل ونهار، ويصف الشمس والقمر بصفة “دائبين”، وهي صفة أصيلة ولصيقة بهما، فالإنسان ينشأ وهو يرى الشمس كل نهار، والقمر كل ليلة، ويموت مخلّفًًا وراءه تتابعهما، وكذلك الأجيال التي سبقته والأجيال التي تليه إلى أن يشاء الله.

ويقتضي هذا التسخير أن نحبّه تعالى وحده لأنه أنعم علينا بأن ذلّل لنا هذه الآيات الكبيرة: الشمس والقمر والليل والنهار، الشمس بحرارتها التي تعتبر أساسًا في حياتنا، والقمر الذي نمتّع به أبصارنا، ونستضيء به في ظلماتنا ونحسب به أيامنا، والنهار الذي يضيء أيامنا وحركتنا، والليل الذي يلفّ أجسادنا ليريحها من عناء النهار.

ثم يأتي التعقيب النهائي الذي يوضّح القصد من الحديث السابق: إنّ الإنسان لظلوم كفّار، شديد الظلم للحق، لا يُؤلِّه الله وحده، بل يُشرك معه آلهة أخرى، ولا يتوجّه إليه بالحبّ وحده بل يحبّ آلهة أخرى معه، وهو شديد الكفران والجحود، يقابل نِعَم الله التي لا تُحصى بالمعصية وعدم الطاعة.

الثاني: البناء العقلي للمسلم:

قد بنى القرآن الكريم عقل المسلم البناء الصحيح، وجعله يتعامل مع الكون المحيط به تعاملاً سليمًا، وهو من أجل تحقيق هذا استخدم آيات الكون والطبيعة والإنسان إلخ…، ووظّفها في سبيل تحقيق هذا الهدف، وليس من شك في أنّ هذه ثمرة عظيمة، ويتّضح ذلك من خلال إقرار قانون السببية، وهو أهم قانون قامت عليه حضارتنا وأخذته الحضارة الغربية من حضارتنا، وهو الذي نقل الإنسان من العقلية الخرافية إلى العقلية العلمية، ففي شأن نزول المطر قال تعالى: “اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ” (الروم، 48)، وقال تعالى: “وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (الأعراف،57). فالآيتان السابقتان توضّحان أنّ الرياح كانت سببًا في تكوين السحب، وكيف أنّ السحب كانت سببًا في نزول الماء، وكيف كان الماء سببًا في إنبات النبات إلخ…، وهذا بناء لعقل المسلم على الظاهرة السببية.

ويتضح البناء العقلي للمسلم من خلال أمر الآيات بالنظر في مظاهر الكون من طعام، ونزول مطر، وإنبات نبات، والشمس إلخ…، فقال تعالى: “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ” (عبس، 24-32)، وقال تعالى: “وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (الأنعام، 99)، وحضّ القرآن الكريم المسلم على النظر في أحوال الأُمم السابقة وهلاكها، وأسباب ذلك فقال تعالى: “قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (الأنعام،11)، وقال تعالى أيضًا: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ” (النمل، 69)، وحثّ القرآن الكريم على استعمال حاسّتي السمع والبصر اللتين هما الأصل في بناء العقل فقال تعالى: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” (الإسراء، 36)، وحثّ القرآن الكريم على التفكير فقال تعالى: “كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” (البقرة، 219)، “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ” (الأنعام، 50)، “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (الحشر، 21)، وحثّ القرآن الكريم على التعقّل فقال تعالى: “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ” (الملك،10)، “وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” (المؤمنون، 80)، وحثّ القرآن الكريم على العلم فقال تعالى: “وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً” (طه، 114)، وامتدح العلماء “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء” (فاطر، 28)، وحثّ الله على استعمال البصر فقال تعالى: “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ” (الملك، 3-4).

الثالث: التدليل على وحدانية الخالق:

استثمر القرآن الكريم آيات الطبيعة والكون للتدليل على وحدة الخالق، فذكرت الروايات أنّ الله أنزل على الرسول في المدينة قوله تعالى: “وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ” (البقرة، 163)، فقالت قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (البقرة، 164)، تحدّثت الآيات السابقة عن مظاهر وألوان من آيات الله الباهرة، منها: خلق السماوات والأرض، والسُفُن التي تجري في البحر، ونزول المطر، وإنبات النبات، وخلق الدواب، وحركة الرياح والسُّحُب إلخ…

إنّ تلك الظواهر الكونية السابقة مع أنها متفرّقة فإنها متكاملة يكمّل بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا، فلَمْ تصطدم أيّة ظاهرة مع أخرى بل الكل مسخّر للإنسان، متكامل معه، يحقّق هدفًا في منظومة الكون السائرة إلى الأمام، وكل هذا يدل على أنّ هناك خالقًا واحدًا، وربًّا واحدًا، وهو ما قصدته الآيات. وقد أشارت آيات أخرى إلى وحدانية الخالق بالمفهوم المخالف بأنه لو كان أكثر من إله لفسدت السماوات والأرض فقال تعالى: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ” (الأنبياء، 22)، وأشارت آية أخرى إلى أنه لو كان فيهما أكثر من إله لعلا بعضهم على بعض ولاضطرب نظام الكون فقال تعالى: “مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ” (المؤمنون، 91).

ومن الجدير بالذكر أنّ الحديث عن وحدانية الخالق من خلال استخدام مظاهر الطبيعة والإنسان يستهدف بالإضافة إلى إثبات حقيقة الوحدانية كحقيقة عقلية أمرًا آخر هو البناء النفسي، ويدلّ على ذلك أنّ الآية التالية للآية التي أثبتت وحدانية الخالق من خلال عرض مظاهر الخلق في السماوات والأرض والسُّفُن ونزول المطر وإنبات النبات إلخ… قالت: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ” (البقرة، 165)، وبيّنت أنّ المقصود من الكلام عن وحدانية الخالق هو: توجيه الحبّ إلى الله، وبيّنت ذلك من خلال الإشارة إلى خطأ بعض الناس بتوجيه الحبّ إلى أنداد لم تَخلق ولم تُنعِم على الناس بشيء.

الرابع: التدليل على وحدة المخلوقات:

استثمر القرآن الكريم آيات الكون والطبيعة والإنسان والحيوان إلخ… للتدليل على وحدة المخلوقات، وأبرز عدّة مبادئ تؤكّد ذلك منها:

أ – مبدأ الزوجية: أشارت الآيات إلى أنّ مبدأ الزوجية هو الذي يحكم الكون كله، فهناك: الذكر والأنثى في عالم الإنسان والحيوان، وهناك الطلع المذكّر والطلع المؤنّث في عالم النبات، وهناك الأرض والسماء، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر إلخ… في عالم الكون، فقال تعالى: “وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (الذاريات، 49)، وقال تعالى: “وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” (ق، 7).

ب- مبدأ إخراج الحي من الميّت والميّت من الحي: أشارت الآيات إلى أنّ الله يخرج الحي من الميّت والميّت من الحي في كل المخلوقات التي خلقها: الإنسان والحيوان والنبات، ففي شأن خلق النبات من النواة قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ” (الأنعام، 95)، وفي شأن خلق الإنسان قال تعالى: “أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ” (يونس، 31).

ج- مبدأ المائية في كل المخلوقات: بيّنت الآيات أنّ الماء هو الأصل في كل المخلوقات فقال تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” (الأنبياء، 30)، فالطفل يأتي من اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، وكذلك الحيوان يأتي من ماء الذكر والأنثى، وكذلك النبات فالماء هو الأصل في حياته، قال تعالى: “وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا” (الأنعام،99)، ثم بيّنت العلوم الحديثة أنّ الماء يشكّل فوق تسعين بالمائة من أجسام المخلوقات جميعها: الإنسان، والحيوان، والنبات.

ومما تجدر ملاحظته أنّ التدليل على وحدة المخلوقات يستهدف أمرًا آخر غير إثبات الحقيقة العقلية هو البناء النفسي، ويدل على ذلك أنّ الآيات التي أبرزت المبادئ التي عرضنا والتي دلّت على وحدة المخلوقات انتهت بما يوجّه إلى ذلك، ولو أخذنا مبدأ الزوجية نجد أنّ الآية التي تحدّثت عن مبدأ الزوجية في سورة الذاريات انتهت بطلب الفرار إلى الله، والفرار يقتضي الرجاء فيمن يفر الإنسان إليه. ولو أخذنا الآية التي تحدّثت عن المبدأ الثاني فسنجد أنها انتهت بقول الله تعالى “أفلا تتقون”، وفيه توجيه وحضّ على التقوى، وهي أصل عظيم في البناء النفسي. وكذلك لو أخذنا الآية التي تحدّثت عن المبدأ الثالث لوجدنا أنها انتهت بقوله تعالى “أفلا يؤمنون”، وهذه النهاية توجيه إلى الإيمان وهو الهدف من البناء النفسي والعقلي.

الخامس: التدليل على ضرورة وجود اليوم الآخر:

شكّل وجود اليوم الآخر مشكلة بالنسبة للمشركين، فردّ القرآن الكريم عليهم بأنّ عدم وجوده يعني العبثية فقال تعالى: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ” (المؤمنون، 115-116)، وقال تعالى: “أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى” (القيامة،36)، ودلّل على ضرورته بالنظر إلى كل الظواهر الكونية، فستجد الحكمة والقصد والهدف من وراء خلقها بالصورة التي خُلقت عليها فقال تعالى في سورة النبأ: “أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا . وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا . وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا . وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا . وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا . وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا . وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا . وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا . لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتًا . وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا . إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا” (النبأ، 6-17)، فأشارت الآيات إلى أنّ الله جعل الأرض ممهّدة لحكمة تسهيل السير فيها، وجعل الجبال عالية شاهقة لتثبيتها ولتقوم مقام الأوتاد بالنسبة للخيمة، وخلق البشر أزواجًا من أجل السكن والمودّة واستمرار النوع، وجعل النوم سُباتًا من أجل الراحة، وجعل النهار مضيئًا من أجل الإنتاج والمعيشة، وجعل الشمس متوهّجة من أجل إنبات النبات وإمكانية عيش الإنسان، وجعل الماء ينزل من السُحُب من أجل إحياء النبات والحيوان والإنسان. إذن فكل شيء مخلوق لحكمة، وإذا كانت الحكمة والقصد والغاية والهدف قانونًا يحكم كل مخلوقات الكون، فلابد من أنّ يحكم الإنسان، لذلك لابد من اليوم الآخر، لذلك قال تعالى بعد تلك الآيات: “إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا” (النبأ، 17).

السادس: التدليل على إمكانية بعث الأموات:

تشكّك المشركون في بعث الأموات الذين صاروا ترابًا، فنقل عنهم تشكّكهم واستغرابهم النشر، في القرآن: “وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ” (الواقعة، 47)، وقال تعالى أيضا: “أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ” (ق، 3)، فردّ عليهم القرآن بأمرين:

الأول: أنّ الذي خلق أول مرّة قادر على أن يعيد خلقه مرّة ثانية فقال تعالى: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ” (يس، 78-79).

الثاني: أنّ خلق السماوات والأرض وهي من خلق الله أكبر من خلق الإنسان، فالنتيجة أنّ الله قادر على أن يعيد خلق الإنسان بعد أن يموت، قال تعالى: “لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (غافر، 57)، وقال تعالى: “وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ” (الروم، 27).

السابع: التدليل على بعض صفات الله:

لم يتحدّث القرآن الكريم عن بعض صفات الله حديثًا نظريًّا، وإنما تحدّث عنها من خلال آيات الكون والإنسان، ففصّل في صفات الخلق والقدرة والعلم والحكمة والخبرة والقوّة إلخ… من خلال عشرات الآيات فقال تعالى عن صفات الخلق: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” (المؤمنون، 12-14)، وقال تعالى: “إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (الأعراف، 54). وأظنني في غنى عن استعراض آيات أخرى بيّنت صفات أخرى لله تعالى كالرزق والحكمة والخبرة والعلم إلخ…

والسؤال الآن: هل يعني ذلك ألاّ نستفيد من كل الاكتشافات العلمية الحديثة في مجال الفلك والطب والنبات والحيوان والإنسان والأنهار والجبال إلخ…؟ لا ليس هذا صحيحًا، بل يجب أن نستفيد، وأن نوسّع آفاق فهم الآيات ونعمّقه من خلال الربط بين الحقائق المكتشفة ومعاني الآيات، فيزداد المسلم تعظيمًا لله، وخوفًا منه، ورجاء فيه، وحبًّا له سبحانه وتعالى، ويمكن أن نضرب على ذلك المثال التالي:

قال تعالى: “وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ . وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ” (الطارق، 11-12). وقد فسّر العلماء قوله تعالى: “والسماء ذات الرجع” بأنها هي السماء التي ترجع المطر، وقوله تعالى: “والأرض ذات الصدع” بأنها الأرض التي تتشقّق فيخرج منها النبات، وليس من شك في أنّ ظاهرتي الإمطار والإنبات ظاهرتان عظيمتان، تؤثّران في قلب الإنسان وعقله، فيتوجّه إلى الله بالتعظيم لأنه أنزل المطر الذي ترتبط به حياته أشدّ الارتباط، ويحبّه تعالى لأنه أغاثه بهذا الماء، ويتفاعل عقله مع هاتين الظاهرتين فيجد في هاتين الظاهرتين علمًا لله، وحكمة وقدرة وخبرة ورحمة وقوّة إلخ…”
ليس من شك في أنّ العصر الحديث أضاف لنا معلومات هائلة، وحقائق متعدّدة، ونظريّات مختلفة عن كل الظواهر المحيطة بنا، ومن الطبيعي أن يستفيد منها علماء المسلمين في تعاملهم مع القرآن

لكنّ العلوم الحديثة أضافت لنا معلومات حديثة حول دور السماء، فهي ليست السماء الماطرة فقط، بل تقوم بدور آخر، فهي ترجع لنا بالإضافة للمطر ثلاثة أشياء هي: الضوء، الحرارة، موجات البث الإذاعي والتلفزيوني. وترجع عنّا أربعة أشياء، هي: الأشعة فوق البنفسجية، الشُهُب، أشعة كونية قاتلة، الجُسيمات الذرية. ويمكن أن يضيف المفسّر هذه المعاني في شرح الآية، فتعطيها أُفُقًا أوسع وأرحب، وتجعل المسلم يزداد تعظيمًا لله، وحبًّا له، وخوفًا منه، ورجاء فيه، وثقة به إلخ… ليس لأنّ السماء أرجعت المطر فقط، بل لأنّ السماء قامت بأشياء أخرى غير المطر، ولا تقل قيمة وأهمية وفائدة عن المطر.

الخلاصة

ليس من شك في أنّ العصر الحديث أضاف لنا معلومات هائلة، وحقائق متعدّدة، ونظريّات مختلفة عن كل الظواهر المحيطة بنا، ومن الطبيعي أن يستفيد منها علماء المسلمين في تعاملهم مع القرآن، لكنهم ركّزوا ذلك في الإعجاز العلمي، وقد رصدنا بعض الأخطاء التي وقع فيها باحثو الإعجاز العلمي في عدّة مجالات، وبيّنا أنّ هذا التعامل الخاطئ حجب الأهداف الرئيسية التي جاءت الآيات من أجلها، وهي: البناء النفسي، البناء العقلي، التدليل على وحدانية الخالق، التدليل على وحدانية المخلوقات إلخ…، وقلّل الثمرات التي يمكن أن يجنيها المسلم من تلاوته للقرآن الكريم، وتدبّره لآياته.

اترك رد