بعد سقوط جدار برلين، وانفراط عقد الاتحاد السوفييتي، وانفراد أمريكا بقيادة العالم بدأ الحديث عن “صراع الحضارات ونهاية التاريخ”، وقد نظّر لهاتين المقولتين كل من صموئيل هاننغتون وفرانسيس فوكوياما، وكان أبرز خطر جرى الحديث عنه في عقد التسعينات هو الخطر الإسلامي، وقد جرى تحذير من أن يتعاون العالم الإسلامي ممثّلاً بإيران مع الصين ذات الثقافة الكونفوشيوسية على مواجهة الحضارة الغربية، وقد أشار صموئيل هاننغتون إلى ذلك في إحدى مقالاته، كما دعا فرانسيس فوكوياما إلى فرض العلمانية على العالم الإسلامي لأنها هي الوسيلة الرئيسية لإزالة أخطار التعصّب الديني حسب مزاعمه، ومن المعلوم أن المستشرق برنارد لويس له دور كبير في تشويه صورة العالم الإسلامي لدى الرأي العام الغربي والإدارات الأمريكية، وله دور كبير في رسم السياسات العدوانية نحو العالم الإسلامي بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص، وله صوت مسموع لدى إدارة بوش وبخاصة فيما يتعلّق بالصراع العربي الإسرائيلي مع التذكير بأنه منحاز بشكل كامل إلى إسرائيل.
وقد تحوّلت دراسات أولئك المفكّرين الكبار، والتي تناولت مختلف شؤون العالم الإسلامي إلى برنامج عمل بعد أحداث 11 سبتمبر الذي ترافق مع وصول المحافظين الجُدد مع بوش إلى البيت الأبيض، وبدأ الحديث عن الإرهاب وخطره، وتم ربطه بالإسلام، وبالثقافة الإسلامية، والمناهج التعليمية إلخ…، وعلت الأصوات مطالبة بتغيير المناهج التربوية في العالم الإسلامي، وتغيير البيئة الثقافية، وتغيير صورة الإعلام من خلال الانفتاح على الآخر إلخ…
ومن خلال دعوى مواجهة “القاعدة” والحدّ من الإرهاب الإسلامي تم اقتلاع نظامين هما: نظام طالبان ونظام صدام حسين، وتم تدمير دولتين ومجتمعين تدميراً كاملاً بقصد القضاء على الإرهاب، وها قد مضى خمس سنوات على هذه المواجهة الحامية، ولكنهم مازالوا يتحدّثون عن الإرهاب وخطره، ففي النصف الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 تحدّث بوش عن الفاشية الإسلامية، ثم تحدّث الجنرال جون أبي زيد القائد العام للقوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا في محاضرة له في جامعة هارفرد بعنوان: “الحرب الطويلة”، وحذّر من أنّ العالم سيواجه “حرباً عالمية ثالثة” إذا لم يجد وسيلة لوقف تزايد التشدّد الإسلامي، وقارن أبي زيد بين ظهور “عقائد تنظيم القاعدة” وانتشار الأفكار الفاشية في أوروبا في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، التي مهّدت لاندلاع الحرب العالمية الثانية وقال: “إذا لم نملك الجرأة الكافية لمواجهة الايديولوجية المتطرّفة سندخل في حرب عالمية ثالثة غداً” معتبراً أنّ عدم وقف المتطرّفين يسمح لهم بكسب ميّزة وملجأ آمن، وتطوير أسلحة دمار شامل، “وأعتقد بأنّ الأخطار المرتبطة بذلك أكبر من أن ندركها”.
ليس من شك بأنّ كلام جون أبي زيد يمكن أن نعتبره الذروة في تضخيم خطر “القاعدة” و”الإرهاب الإسلامي”، إذ كيف يمكن أن تقوم حرب عالمية ثالثة؟ وأين الدول التي ستقيمها؟ وإذا سلّمنا جدلاً مع الجنرال أبي زيد بتشابه أفكار “القاعدة” مع الأفكار الفاشية التي انتشرت قبل الحرب العالمية الثانية، فإنّ ظروف “القاعدة” تختلف عن ظروف موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا، فالاثنان استلما سلطة دولتين من أقوى الدول الأوروبية، واستطاعا أن يبنيا في سنوات محدودة ترسانة عسكرية ضخمة، في حين أنّ ممارسات ابن لادن أفقدته دولة أفغانستان التي كانت تحميه، وأصبح طريداً شريداً لا يجد مأوى ولا مقراً، فمن أين ستقوم الحرب العالمية الثالثة إذا لم تكن هناك جيوش جرارة؟!! وكيف ستبدأ إذا لم تكن هناك دول تقيمها وترسانة عسكرية تغذيها؟!!
وقد سار جون نغروبوند رئيس الاستخبارات الأمريكية المتنحّي في السياق نفسه، عندما قدّم تقييم الأخطار السنوي إلى الإدارة الأمريكية في الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) 2007 فقال: “إنّ القيادة الرئيسية للقاعدة مرنة، ومخابئها في باكستان آمنة، كما أنها تقيم علاقات واتصالات أقوى على صعيد العمليات مع المجموعات المنتسبة لها”. وهذا القول يتناقض مع قول بوش بأنّ الحملة ضدّ القاعدة تسير بصورة جيدة عندما قال في تشرين الأول (أكتوبر) 2006: “نحن نفوز بالتأكيد، القاعدة في تراجع”.
ومن الجدير بالذكر أننا لسنا وحدنا الذين نتحدّث عن تضخيم الإدارة الأمريكية لخطر “القاعدة”، بل بدأ يتحدّث مثقّفو الشعب الأمريكي عن ذلك، وقد أشار إلى ذلك باتريك سيل فذكر في مقال له في “الحياة” بتاريخ 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 من أنّ أبرز المثقّفين الأمريكيين أخذوا يتمرّدون علنا على الأرضية المركزية التي يقيم عليها جورج بوش سياسته الخارجية ألا وهي “الحرب الشاملة على الإرهاب”، واستشهد باتريك سيل بالدكتورة لويز ريتشاردسون الأستاذة في جامعة هارفارد، ونقل فقرة من كتابها “ما يريده الإرهابيون: فهم العدو واحتواء الخطر”، وطرحت تساؤلاً تقريرياً فقالت: “هل حصلت مبالغة شديدة في تضخيم خطر الإرهاب؟”، واستشهد باتريك سيل بشخص آخر هو: جورج سوروس البليونير الذي انتقد جورج بوش فقال: “إنّ الحرب على الإرهاب هي خطاب شكلي قادنا للأسف إلى حروب حقيقية على جهات عدّة في أفغانستان والعراق بل وفي لبنان وغزّة والصومال”.
وفي السياق نفسه ألّف ديفيد غراي غريفين وهو أستاذ جامعي أمريكي كتاباً تحت عنوان “شبهات حول 11 سبتمبر” عرض فيه لوقائع 11 سبتمبر، وبيّن تصرفات الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخبارية قبل الحادثة وأثناءها وبعدها، ورصد عدداً كبيراً من حوادث التقصير وقلّة الكفاءة، وبعد أن استبعد “نظرية المؤامرة” في تفسير التقصير خلص إلى أنّ هناك ثلاث نظريات تفسّر وقوع أحداث 11 سبتمبر وهي: “نظرية المصادفة، ونظرية قلّة الكفاءة، ونظرية التواطؤ الرسمي”، والمقصود بنظرية “قلّة الكفاءة” بأنّ كل التقصيرات والإهمالات والأخطاء التي وقعت يوم 11 سبتمبر في مختلف المجالات الدفاع والحماية حدثت نتيجة قلّة الكفاءة لدى الأجهزة والأشخاص، وأشار إلى أنّ نظرية “قلّة الكفاءة” هي جزء من “نظرية المصادفة” التي تعني بأنّ كل حوادث قلّة الكفاءة حدثت مصادفة، وعقّب غريفين على هذه النظرية بأنّ تصديق “نظرية المصادفة” ونظرية “قلّة الكفاءة” يتطلّب سذاجة أكبر من تصديق “نظرية التواطؤ الرسمي”، وكان غريفين قد أحصى (38) تصرّفاً تدخل في باب قلّة الكفاءة، كما أحصى (24) دليلاً على وجود تواطؤ رسمي.
والآن بعد أن عرفنا أنّ هناك تياراً من المثقّفين الأمريكيين يميل إلى وجهة النظر التي تقول أنّ الإدارة الأمريكية تضخّم قضية “القاعدة والإرهاب”، يأتي السؤال: من المستفيد من هذا التضخيم؟ الأرجح أن المستفيد ثلاثة أطراف، هم:
أولاً: إسرائيل، وذلك من خلال تدمير العراق، وقد أعلن أولمرت ذلك في زيارة أمريكا في نوفمبر الماضي من عام 2006 عندما قال: “إنّ احتلال أمريكا للعراق وتدمير الجيش العراقي حقّق هدفاً استراتيجياً من أهداف إسرائيل”.
ثانياً: إيران، وذلك من خلال زوال أكبر نظامين معاديين لها وهما: نظام صدام في العراق، ونظام طالبان في أفغانستان، ثم توسيع نفوذها في العالم الإسلامي من خلال استغلال الطائفة الشيعية الموجودة في عدّة أقطار منها: العراق والخليج ولبنان وباكستان إلخ…
ثالثاً: أمريكا، وذلك من خلال وضع يدها المباشرة على أهمّ موارد البترول في منطقة بحر قزوين ومنطقة الخليج، وهي السلعة الاستراتيجية المهمّة التي تعتبر العنصر الرئيسي في الصناعة المعاصرة، ومن خلال رسم خرائط جديدة للشرق الأوسط تقوم على بعث العوامل الطائفية والمذهبية وتأجيجها وإعطائها امتداداتها النهائية، من أجل تمكين إسرائيل وجعلها الدولة الأقوى في الشرق الأوسط، وهو ما يتطلّع إليه المحافظون الجُدد في واشنطن.