tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

الأمة بين خطرين: التفتيت والتحويل

أقام الإسلام كيانه التاريخي وبناءه على ثلاثة عناصر، ككل كيان تاريخي فعال، وهي: الفرد، الأمة والدولة، وقد تعرضت العناصر الثلاثة إلى كثير من التحديات الصعبة التي استهدفت وجودها وحضورها وفاعليتها، ونحن سنستعرض بعض هذه التحديات التي واجهت عنصري الأمة والدولة في العصور الماضية، وسنبين كيف تغلبتا عليها، ثم سنستعرض التحديات والأخطار التي تواجه الأمة في العصر الحديث، وعن الفرق بين هذه الأخطار القديمة والحديثة.

تعرضت الدولة في القرون الماضية إلى خطرين عظيمين هما: الخطر الصليبي، والخطر المغولي، فالخطر الصليبي ابتدأ بالهجمة الصليبية الأولى التي انطلقت من أوروبا عام 1096م، وتم احتلال القدس 1099م، واحتل الصليبيون كذلك معظم بلاد الشام والساحل السوري والساحل الأفريقي، وقسماً من تركيا، واستمر هذا الاحتلال ما يقرب من مائتي عام، وكذلك جاء بعده الهجوم المغولي الذي واجه الدول الإسلامية من جهة المشرق وأسقط عدداً من الدول الواقعة شرق العراق، إلى أن وصل هولاكو إلى بغداد، ودمرها وأنهى كيان الخلافة العباسية عام (656هـ – 1258م)

لقد نجح الهجومان: الصليبي والمغولي في إسقاط عدد من الدول الإسلامية واحتلال أرض واسعة من الأرض الإسلامية، وكان يستهدف الاحتلالان إنهاء الوجود الإسلامي في هذه المنطقة، لكن الأمة كانت تملك حيوية فائقة فأفرزت دولاً أخرى أوقفت هذين الهجومين، ففي مجال الهجوم الصليبي برزت الدولتان: الزنكية والأيوبية اللتان تصدتا لذلك الهجوم وأوقفتاه، واستعادتا عدداً من المدن أبرزها الرها عام 1144م، ثم القدس بعد معركة حطين عام 1187م.

وفي مجال الهجوم المغولي برزت دولتا: المماليك البحرية والشركسية، فتصدت دولة المماليك البحرية بقيادة قطز للهجوم المغولي في معركة عين جالوت عام 1260، وتغلبت عليه وأوقفته عند فلسطين، ولم يتمكن من الوصول إلى مصر.

وأعتقد أن الأهم في موضوعنا هو الإشارة إلى أن حيوية الأمة لم تتوقف عند تحقيق الانتصارات العسكرية على الهجومين الصليبي والمغولي، بل تعدت ذلك إلى التأثير الحضاري فيهما، فجاء المذهب البروتستنتي الذي نشأ في بداية القرن السادس عشر في أوروبا نتيجة تفاعل بين الصليبيين المحتلين وبين الدين الإسلامي، وتأثرهم في علاقة المسلم المباشرة بالنص القرآني، وبمسؤولية المسلم الفردية المباشرة أمام الله تعالى، وبصورة المسجد الذي يخلو من أية تماثيل أو صور، وانعكس ذلك فترجم مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستنتي الإنجيل إلى الألمانية، ليبني من خلال هذه الترجمة علاقة مباشرة بين الفرد المسيحي والنص الديني دون وساطة رجال الدين، واستهزأ بصكوك الغفران التي كانت تمنحها الكنيسة الكاثوليكية لرعاياها، مستفيداً من موقف الإسلام باعتبار المسؤولية مسؤولية فردية أمام الله تعالى، وجاءت صورة الكنيسة البروتستنتية مشابهة للمسجد في احتوائها على مقاعد لجلوس المصلين فقط دون تماثيل أو صور أو أيقونات.

أما بخصوص الهجوم المغولي، فقد أنشأ أحفاد هولاكو الذي دمر بغداد دولة امتدت من نهر جيحون في المشرق إلى العراق، واعتنقت الإسلام، وحملت مبادئه وأحكامه، وساهمت في بناء الإسلام الحضاري، ودافعت عنه في وقت من الأوقات.

كان ذلك في الماضي، أما بالنسبة للحاضر فإن آخر دولة إسلامية سقطت عام 1924 هي دولة الخلافة العثمانية، ولم تستطع الحركات الإسلامية أن تقيم دولة مكان الخلافة الزائلة خلال المائة سنة الماضية، وامتد الخطر في اعتقادي إلى كيان الأمة الذي يتعرض إلى خطرين كبيرين، لم يسبق أن تعرض لمثلهما، وهما:

الخطر الأول: التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي: وهو ما قام به “المشروع الغربي الصهيوني” الذي نجح في استعمار معظم البلاد العربية، بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيمها، كما نجح في إقامة إسرائيل عام 1948م إلخ….، فبعد قرن من التشكيك المبرمج في كل أركان وجود الأمة: القرآن الكريم والسنة المشرفة واللغة العربية، والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، نجح في تغريب قسم محدود من أبناء الأمة، وبقي القسم الأعظم موالياً لدينه وسنة رسوله ولغته وتاريخه وحضارته، وهو ما تأكد مرتين: الأولى بعد نكسة 1967م فظهرت الصحوة الإسلامية، والثانية: في ثورات الربيع العربي والتي كان الإسلاميون جمهورها الواسع، وتأكد ذلك عندما انتخب جمهور الأمة الإسلاميين في كل الأماكن التي أجريت فيها انتخابات نزيهة.

الخطر الثاني: تحويل الأمة الإسلامية إلى أمة شيعية:

وهو ما يقوم به “مشروع ملالي إيران” ويجتهد أن يحققه في أسرع وقت متعاوناً مع “المشروع الصهيوني الغربي”، وقد بدأ تنفيذ هذا المشروع منذ مجيء الخميني عام 1979م إلى طهران. واستطاع هذا المشروع أن يحقق بعض الإنجازات في عدد من العواصم العربية، وأبرزها بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق، فقد استغل “مشروع ملالي إيران” بعض الظروف السياسية في المنطقة لصالحه، وقلب موازين القوى واحتل هذه العواصم.

وقد تأكد أن الهدف الرئيسي لدولة “ملالي إيران” هو تحويل هذه الأمة الإسلامية إلى أمة شيعية من خلال رصد المبادىء والأعمال التي قامت عليها “دولة الملالي”، فنجد أن قيادة الخميني قد أصرت أن يكون المذهب الإثنا عشري هو المذهب الذي تدين به إيران وليس دين الإسلام، وجعل ذلك مادة في الدستور ملزمة لإيران إلى الأبد.

ثم إذا تتبعنا بعد ذلك الأعمال التي تقوم بها حكومة إيران في كل المجالات السياسية والثقافية والفكرية والتربوية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية والإدارية لوجدنا أنها ترتبط بالمذهب الاثني عشري بصورة من الصور.

وإذا تتبعنا –كذلك- سياسة إيران الخارجية لوجدنا أنها تعتمد على دعم الطوائف الشيعية في العالمين: العربي والإسلامي، وتمكينها في بلدانها كما حصل في لبنان والعراق واليمن، وتعتمد –كذلك- على نشر المذهب الشيعي في البلدان التي ليس فيها طوائف شيعية كمصر وتونس والجزائر والمغرب وبعض يلدان أفريقيا وآسيا، وأنشأت إيران في سبيل ذلك المراكز الثقافية التي تنشر المذهب الشيعي، وتوزع الكتب والمجلات، التي تشرح المذهب الشيعي، وتستقبل أبناء تلك البلدان لتعلمهم في جامعات إيران من أجل أن يعودوا دعاة لمذهبها الشيعي.

وإذا تتبعنا كل المؤسسات التي أنشأها الخميني في رأس الهرم السياسي في إيران كمنصب  المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، أو مجمع الفقهاء الذي ينتخب الولي الفقيه، أو مجلس تشخيص مصلحة النظام، أو مجلس صيانة الدستور.. إلخ، فنجد أنها وضعت جميعها لخدمة المذهب الشيعي، وتسييده على مؤسسات الدولة الإيرانية، وإلزام جميع الوزارات والوزراء في إمضاء أحكامه وإفتاءاته.

وإذا تتبعنا الأمور العسكرية فإننا نجد أنها مرتبطة بالمذهب الشيعي من جهة، وبالمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية الذي يحكم إيران باسم “الولي الفقيه”من جهة ثانية، فهي مرتبطة بالمذهب الشيعي من ناحية العقيدة القتالية والولاء للمهدي المنتظر، وهي مرتبطة بقرار المرشد “الولي الققيه”  في كل فروع المؤسسة العسكرية كالجيش النظامي، والحرس الثوري، والمنشأت النووية، من ناحية الترتيب الإداري.

هذان هما الخطران الرئيسيان اللذان يهددان الأمة في هذه المرحلة، ويأتيان من المشروعين: “الغربي الصهيوني”و “ملالي إيران”، وهما يتعاونان ويتقاطعان في كثير من الأماكن والأوقات أو يكمل أحدهما الآخر، ولايتسع المقام لتفصيل ذلك.

أما “داعش” التي برزت على السطح السياسي، واحتلت أراض واسعة في كل من العراق وسورية فليست “مشروعاً”، لأنها لم تقم على الحقين: الشرعي والكوني للإسلام من جهة ، وليست مستقلة النشأة من جهة ثانية، بل هي صناعة المشروعين السابقين: “الغربي الصهيوني” و”ملالي إيران”، وهما يستفيدان منها في تشويه صورة الإسلام من ناحية ،وإعطاء مبررات لهما من أجل تحقيق أهدافهما من ناحية ثانية .

لذلك فإن كيان “داعش” إلى زوال قريب- بإذن الله- لأنه يستمد مادته وغذاءه من ظروف مؤقتة ومحدودة ومرضية واستثنائية تمر بها الأمة.

الخلاصة: كان هناك تهديد مستمر لعنصري الدولة والأمة على مدى التاريخ السابق، لكن أخطر هجومين تعرضت لهما الدولة الإسلامية هما: الهجوم الصليبي والمغولي، واستطاعت الأمة أن تفرز دولا تدحر الهجومين، ليس هذا فحسب بل استطاعت الأمة أن تؤثر في المهاجمين المنتصرين في عدة مجالات نتيجة رقيها الحضاري.

والأمة -الآن- مهددة من مشروعين يستهدفان تدميرها وتحويل كينونتها وبنيتها، ولكن الأمل بالله، ثم بامكانات الأمة وحيوتها أن تستطيع الأنتصار على هذه المشاريع كما انتصرت في السابق.

رابط المقال من موقع السورية نت الأمة بين خطرين: التفتيت والتحويل

اترك رد