اتفاقات الحكم الذاتي بين منطق القطر ومنطق الأمة

اتفاقات الحكم الذاتي بين منطق القطر ومنطق الأمة

وقّع عرفات مع نتنياهو اتفاق الخليل (من اتفاقات الحكم الذاتي) في 15/1/1997 إثر تسلّم الأخير رئاسة الوزارة بعد انتخابات أيّار/مايو الماضية التي أسفرت عن وصول الليكود المتشدد الذي عبّر عن حقيقة الشعب الاسرائيلي، وقد كانت حصيلة اتفاق الخليل (من اتفاقات الحكم الذاتي) البنود التالية:

1- تقسيم مدينة الخليل إلى قسمين نتيجة إبقاء (400) مستوطن يهودي داخل المدينة.

2- إبقاء الأماكن المقدسة بيد اليهود.

3- إبقاء جانب من أمن المدينة تحت قيادة إسرائيل.

4- تشكيل دوريات مشتركة من الشرطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي للتدخل السريع لفرض السيطرة على الاضطرابات ومحاولات الاعتداء في منطقة H1.

5- تشكيل دوريات مشتركة في منطقة السلطة الفلسطينية H1 .

6- وجود وحدة متنقلة مشتركة يكون مجال نشاطها المناطق المشرفة على وسط المدينة.

وقد داور ياسر عرفات وتمنّع كثيراً قبل أن يوقع اتفاق الخليل، واستنجد بالوسطاء العرب: الرئيس حسني مبارك والملك حسين، ودعا أمريكا إلى التدخل، وأخّر توقيعه عدة مرّات.

لكن اتفاق الخليل جاء في النهاية مجحفاً كما كل اتفاقات الحكم الذاتي بحق الجانب الفلسطيني الذي رضخ للقرارات التي فرضها الجانب الإسرائيلي، وجاء مشابهاً لاتفاقات الحكم الذاتي السابقة:

أوسلو والقاهرة وطابا والتي تتصف جميعها بأنها اتفاقات استسلام وليست اتفاقات سلام لأنها تأتي مفصلة حسب الرغبة الاسرائيلية والمطامع اليهودية، وتأتي إملاء من الطرف الاسرائيلي على الطرف الفلسطيني.

وأبرز ما يؤكد ذلك أنها لم تعترف حتى الآن بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الذي يجب أن يكون حجر الزاوية في العملية السلمية والذي يعتبر الحد الفاصل بين السلام والاستسلام.

ويؤكد ذلك أيضاً أن إسرائيل لا تعامل الشعب الفلسطيني بنديّة واضحة، ولا تحترم إرادته، بل تجعل نفسها الوصية عليه، وتصادر إرادته في كل مجال، وتضع القيود على سيادته، وتكبّل أمنه .

        وتنطلق إسرائيل في فرضها الاستسلام على الجانب الفلسطيني من كونها الطرف المنتصر في حرب 1967م وفي حرب الخليج الثانية التي دمّرت الأمة، وتذكّر العرب بين حين وآخر بأن المفاوضات الحالية بين طرفين:

أحدهما منتصر والآخر مهزوم وعلى المهزوم أن يرضى بما يمليه عليه المنتصر. فطالما أن حقيقة اتفاقات الحكم الذاتي مع إسرائيل الاستسلام وليس السلام، فلماذا يسميّها -إذن- الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي باتفاقات سلام؟

أما القيادة الفلسطينية فتسمي اتفاقات الحكم الذاتي اتفاقيات سلام من منطلقها القطري الشخصي الذي اعتبر اعتراف اسرائيل بمنظمة التحرير كسباً وانتصاراً وفوزاً عند تبادل الرسائل بين رابين وعرفات قبل توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن في أيلول/سبتمبر 1993م ، مع أن النظرة الفاحصة لاتفاق أوسلو تؤكد أنه خسارة في منطق الأمة لأنه اعترف بحق اليهود في فلسطين ولم ينتزع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ولأنه ربط اقتصاد فلسطين وأمنها وسيادتها بإسرائيل ، ولأنه لم يثبت حقنا الواضح في القدس وعودة اللاجئين بل ترك كل ذلك لمفاوضات قادمة مجهولة النتائج في أحسن الأحوال.

ومن الأمور التي تؤكد مضي القيادة الفلسطينية في اتجاهها القطري الشخصي هو تهديدها اسرائيل بين حين وآخر بإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، وكأن الإعلان عن إقامة دولة فلسطينية سيزلزل اسرائيل من جذورها، مع أن الأمر لا يعدو في حقيقته أكثر من ورقة إعلامية تُوهم فيها أمتنا وشعبنا بأن انتصارات تحققت وبأن انجازات قامت، وإلاّ فما قيمة دولة مكبّلة مرهونة لعدوها لا تملك الصلاحيات والإمكانيات والإرادة المستقلة؟؟!!  

أما القيادة الاسرائيلية فتسميها اتفاقات سلام لأنها تريد أن تنفذ إلى العالمين: العربي والإسلامي من خلال إيهامهما بأن سلاماً قد تحقق بين الطرفين الرئيسيين في الصراع، وقد لجأت اسرائيل إلى هذا الأسلوب لأنه لا طاقة بشرية وعسكرية عندها تمكّنها من السيطرة على العالمين:

العربي والإسلامي اللذين هما امتداد للشعب الفلسطيني، فإذن كانت اسرائيل تستهدف التوصل إلى أعماق العالمين: العربي والإسلامي، والاستفادة منهما:

وبالفعل بدأ يتحقق لها شيء مما تطلعت إليه فكان مشروع بيريز للشرق الأوسط الجديد الذي تخيّل فيه اجتماع المال العربي والتكنولوجيا الاسرائيلية، وكانت القمم الاقتصادية المتتالية في الدار البيضاء وعمّان والقاهرة والتي رسمت قواعد التعاون الاقتصادي والتعاون التجاري والاستثمار المشترك.

وكان الإلحاح على رفع المقاطعة العربية التي خسّرت اسرائيل الملايين، فاستجاب العرب بالرفع الجزئي لها مع الوعد بالرفع الكامل لها بعد استكمال التطبيع بين الطرفين، وجاء اعتماد مكاتب التمثيل بين إسرائيل وعدد من الدول العربية لينتج آفاق تعاون سياسي واقتصادي، وتدفقت السياحة الاسرائيلية على بعض البلدان العربية من أجل تدجين الشعوب العربية وتعويدهم رؤية اليهود والتعامل معهم.

وأعادت كثير من دول العالم الإسلامي علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية تمهيداً لتعميقها بعد أن كانت مقطوعة في مراحل سياسية سابقة.

فإذا كان عدوّنا يدرك عنصر القوة فينا وهو أن فلسطين جزء من العالمين: العربي والإسلامي ويريد أن يتوصل إليه فيضعفه، فهل وَعَت القيادة الفلسطينية عنصر القوة هذا وكيف تعاملت معه؟

الحقيقة إن القيادة الفلسطينية تلجأ إلى الأمة عندما تواجه مأزقاً أو عندما يفعل اليهود أمراً يتعلق بالقدس ولا يتعدى لجوؤها الألفاظ والدعوات والمناشدات، وخير مثال يوضح ذلك سلوكها عندما قرر نتنياهو إقامة مستوطنة في جبل أبوغنيم في القدس الشرقية في 27/2/1997 احتج ياسر عرفات، ودعا مجلس الجامعة العربية للاجتماع، فاجتمع واستنكر خطوة البناء ، كما اجتمع ياسر عرفات مع الملك الحسن الثاني رئيس لجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ووعد الملك الحسن الثاني ياسر عرفات بدعوة لجنة القدس لبحث الموضوع واتخاذ القرارات المناسبة، ونتوقع أن ينتهي الموضوع لهذا الحد كما انتهت الموضوعات المماثلة.

ولو عدنا إلى الحروب الصليبية لوجدنا أن القيادات التي طردت الصليبيين من بلادنا كانت تتعامل مع الاحتلال الصليبي بمنطق الأمة وليس بمنطق القطر، ويدل على ذلك أن عماد الدين الزنكي وابنه نور الدين محمود وحليفهم صلاح الدين الأيوبي كانوا يحرصون على الارتباط بالخلافة العباسية في بغداد وينفذون تعليماتها.

وكانوا يحرصون على استئذانها في بعض التصرفات، وإخبارها ببعض التصرفات الأخرى، وكانوا يحرصون على القيام بعمليات توحيدية مستمرة في الوقت الذي كانوا يستمرون في مقاتلة الأعداء المحتلين للأرض الإسلامية.

كما كانوا يعادون الحكام الذين يوقعون معاهدة صلح مع الصليبيين ويحرضون الأمة عليهم كما حدث مع حاكم دمشق “معين الدين أنر” الذي وقّع صلحاً مع الصليبيين فحاصره نور الدين محمود عدة مرات لكنه كان يتخلص من الحصار بدعوة الصليبيين.

لكن أهل دمشق تجاوبوا مع نور الدين محمود وسلّموه دمشق بعد وفاة حاكمها خضوعاً وتسليماً بمنطق الأمة.

إن أخطر ما في المنطق القطري هو أن أثره لا يتوقف على الوقت الحاضر بل يتعداه للمستقبل، وربما كان خطره أشد ما يكون في قضيتين:

الأولى: تكريس العجز في مواجهة العدو

يتضح من النظر الأولي البسيط إلى المعطيات الآن تفوق العدو الإسرائيلي على أهل فلسطين في مختلف المجالات، لكن الأدهى والأمرّ هو توقع استمرار تفوقه، والسبب بسيط هو أن اتفاقات أوسلو وما بعدها أعطته الوصاية ومنحته التحكم بمقدرات الشعب الفلسطيني في مختلف المجالات.

الثانية: إضعاف حقنا التاريخي في فلسطين

وذلك لأن فلسطين لم تكن كياناً تاريخياً مستقلاً في أي وقت من الأوقات بل كانت جزءاً من الأمة الإسلامية، وإن الأدلة التي تثبت حقنا كأمة في فلسطين وافرة، لكني أظن أن إثبات ذلك بمنطق القطر صعب.

وقد وعى اليهود هذا الجانب فوجهوا حرابهم وجهودهم أول ما وجهوها إلى الخلافة العثمانية حتى أسقطوها، ثم اتجهوا إلى البلاد العربية فجزأوها حتى استطاعوا أخذ فلسطين وأقاموا فيها دولتهم.  

الخلاصة

إن مواجهة العدو الإسرائيلي بالمنطق القطري الإقليمي سيؤدي باستمرار إلى تغلبه وخسارتنا، ولن يرجح الميزان إلا إذ عدنا إلى التعامل معه بمنطق الأمة وحشد طاقاتها، وتجييش إمكانياتها. 

 

اترك رد