وقّعت إيران مع دول مجلس الأمن الخمسة وألمانيا اتفاقاً حول برنامجها النووي بتاريخ 14/7/2015، فما قيمة هذا الاتفاق؟ وما دوره في إنجاح “المشروع الإيراني” الذي رسمته إيران بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979م؟ وكيف يجب أن نُعامل إيران بعد وضوح أهداف “المشروع الإيراني” في سورية ولبنان والعراق واليمن والمغرب العربي وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا إلخ…؟ هل يجب أن نُعاملها كأخ؟ أم كصديق؟ أم كعدو؟ ونحن من أجل الإجابة على هذه الأسئلة لا بد لنا من إلقاء نظرة على تاريخ الدولة الإيرانية في القرن العشرين.
حكم إيران خلال القرن العشرين نظامان:
الأول: نظام قومي فارسي: قام نظام قومي فارسي في إيران بعد الحرب العالمية الأولى، وحكمت إيران في هذه الفترة أسرة رضا بهلوي، واعتبر الشاه نفسه امتداداً لأكاسرة الفرس القدماء، واعتبر الضفة الغربية من الخليج جزءاً من أرض إيران الفارسية، وتطلّع إلى احتلالها، وإلى الاستيلاء على ثرواتها البترولية، وقد ادّعى في وقت من الأوقات ملكية البحرين، كما احتل بعض الجزر من الإمارات العربية المتحدة عام1971م.
الثاني: نظام ديني طائفي: قامت في إيران ثورة عام 1979م، وتغلبت على شاه إيران، وقادها رجال الدين، واعتبرت إيران دولة طائفية تقوم على الالتزام بالمذهب الجعفري الاثني عشري إلى الأبد، وأعلنت مشروعاً مبنياً على تصدير الثورة إلى العالمين: العربي والإسلامي، وقد قام المشروع على إحداث تغيير في بنية الأمة وتركيبتها التاريخية، بأن يحوّلها من أمة إسلامية إلى أمة ذات صبغة طائفية ملتزمة بالمذهب الجعفري الاثني عشري.
وبدأت إيران بتصدير هذا المشروع عن طريق التواصل مع بعض القيادات الطائفية الجعفرية في دول العالم العربي والإسلامي، ومدّها بالمال والسلاح، وإصدار الأوامر إليها بإحداث القلاقل، وافتعال الأزمات، فأحدثت تفجيرات في الكويت في الأعوام 1983م و1985م عن طريق حزب الله، وأوقعت مجازر في الحرم المكي أثناء موسم الحج في الأعوام 1986م و1987م و1989م، كما أحدثت قلاقل في دول أخرى مثل البحرين والعراق ولبنان واليمن إلخ…
وسخّرت دولة إيران كل إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية والتربوية والثقافية والسياسية من أجل تحقيق هدف ذلك “المشروع الإيراني” الأساسي وهو التغيير البنيوي لتركيبة الأمة التاريخية، بحيث تتحوّل من أمة إسلامية إلى أمة ذات صبغة طائفية.
ففي المجال العسكري أنشأت إيران “الحرس الثوري” الذي هو ميليشيات عسكرية مرتبطة بالمرشد الأعلى، وهو غير الجيش النظامي، وتُقدّر بعض المراكز عدد قوات الحرس الثوري بـ (350) ألف عنصر، ويمتلك الحرس الثوري عتاداً خاصاً به يتضمن صواريخ ودبابات وطائرات مقاتلة، ويمتلك صواريخ طويلة المدى من عائلة “شهاب” و”خيبر” و”رعد” و”النازعات”، ويمتلك قوّة بحرية وأخرى جوية، وهناك قوات أخرى تتبع الحرس الثوري منها: قوات “الباسيج” و”فيلق القدس” الذي يرأسه “قاسم سليماني”، وهذا الفيلق مُختصّ بالتدخلات الخارجية، وهو الذي يُحرّك الشيعة في الدول الخارجية، ويُقدّر عدد قوات “فيلق القدس” بـ (50) ألفاً، ومن الواضح أن كل التشكيلات السابقة تلتزم بـ”المشروع الإيراني” وتُنفّذ تطلعاته وتدخلاته في العراق ولبنان والبحرين واليمن وسورية إلخ…
وفي المجال السياسي نجد أن –سياسة- إيران تقوم كلها على تنفيذ أهداف “المشروع الإيراني” الذي تحدثنا عنه سابقاً، والذي يدعم التوجه الطائفي وتمكينه كما حصل في لبنان والعراق واليمن وسورية والبحرين وشمالي أفريقيا وآسيا، وأنشأت في سبيل ذلك المراكز الثقافية التي تبث آراء وثقافة “المشروع الإيراني”، وتوزع الكتب والمجلات من أجل ترويج الدعاية لـ “المشروع الإيراني”، وتمكين مبادئه، وتوسيع رقعة حضوره ونفوذه.
وقد قامت إيران بخطوتين بارزتين لإنجاح “المشروع الإيراني”، وهي:
الأولى: التعاون مع أمريكا: وقد حدث ذلك في عدة محطات من تاريخ “المشروع الإيراني”، وكان أولها: الحرب العراقية الإيرانية في زمن صدام حسين ودلّ على ذلك “كونترا غيت”، وثانيها: مساعدة أمريكا في احتلال أفغانستان عام 2001م، والعراق في عام 2003م، وثالثها: إلغاء البرنامج النووي في إيران، ووضعه تحت المراقبة الدولية، وتطمين إسرائيل بعدم وجود منافس ذري لها في المنطقة، وقد تم التوقيع على هذا الاتفاق في الشهر السابع من عام 2015م.
وذلك مما سيجلب الرضا عن إيران من طرفين رئيسيين في العالم والمنطقة، هما: أمريكا وإسرائيل، وسيوفر ذلك الرضا لإيران إطلاق يدها في تنفيذها مشروعها الذي يستهدف تغيير بُنية الأمة وتركيبتها التاريخية.
الثانية: التواصل مع حركات المقاومة في فلسطين: لقد قامت القيادة الإيرانية بالتواصل مع حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وأبرزهما: حركة حماس وحركة الجهاد، وقدّمت دعماً مالياً وإعلامياً لهما، وادّعت أنها تقف إلى جانب قضايا التحرر، وقد استفادت من هذه العلاقة في ترويج مشروعها.
لقد حقق “المشروع الإيراني” عدّة نجاحات، واستطاع أن يُغيّر صورة المنطقة، وهو يسيطر الآن على أربعة عواصم عربية: بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء، وستزداد وتيرة تأثير “المشروع الإيراني” في المنطقة بعد أن وقّعت إيران الاتفاق النووي مع دول مجلس الأمن الخمسة زائد واحد، لأن توقيع الاتفاق سيعني إطلاق يد إيران في المنطقة من جهة، وسيعطي قوّة للاقتصاد الإيراني لأنه سيستعيد (150) مليار دولاراً مجمدة في بنوك أوروبا وأمريكا من جهة ثانية، وسيجعل هذا الاقتصاد الغني إيران أقدر على تنفيذ “المشروع الإيراني” والإنفاق عليه.
والسؤال الآن: كيف يجب أن يُعامِل الدعاة والجماعات الإسلامية والأحزاب إيران وبخاصة بعد أن وقّعت الاتفاق النووي مع دول مجلس الأمن الخمسة زائد واحد؟ هل يجب أن تُعامَل كأخ وبخاصة أنها تحمل اسم “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”؟ أم يعاملونها كصديق بحكم الجوار والتاريخ؟ أم يعاملونها كعدو بناء على مشروعها الذي أطلقته عام 1979م والذي يقوم على تغيير بُنيوي في تركيبة الأمة التاريخية وتفتيتها، وتحويلها من “أمة إسلامية” إلى “أمة شيعية”؟
من الواضح أن الواجب على الدعاة والجماعات الإسلامية والأحزاب أن يُعاملوا إيران كعدوّ لأنها تتبنى مشروعاً معادياً للأمة يستهدف تغيير بنيتها وتركيبتها التاريخية، وتفتيتها طائفياً.
ومما يشير إلى سوء موقف إيران الأخلاقي، ويؤكد صحة التصنيف لها في خانة الأعداء، أنها لم تقف إلى جانب الأمة في مصارعتها للمشروع الصهيوني الغربي، ليس هذا فحسب، بل فتحت المعارك الجانبية على الأمة في مختلف أقطارها: في العراق، والخليج، والمغرب العربي، وأفريقيا، وشرق آسيا، إلخ…فمزقت وحدتها، وبدّدت قوتها.
قد نلتمس العذر للدعاة والجماعات التي التبس عليها موضوع إيران عند قيام الثورة عام 1979م، فأحسنت الظن بها، ولم تُصنّف إيران في خانة الأعداء نتيجة قلّة المعلومات المتوفرة عن “المشروع الإيراني” من جهة، ولأن إيران رفعت –آنذاك- شعارات جذابة وقريبة من قلوب المسلمين وعقولهم من مثل: الدعوة إلى وحدة المسلمين، وإلى التحرر من الاستعمار، وإلى تدمير إسرائيل، وإلى قتال المستكبرين من جهة ثانية. ربما كانت هذه العوامل السابقة هي التي أوجدت ارتباكاً وتشويشاً في عدم التوصل إلى الحكم الصحيح على إيران.
لكن -الآن- لم يعد هناك عذر لأحد في ألاّ يضع إيران في مركز العداوة للأمة، بعد أن اتضح أنها ذات “مشروع” مدمّر للأمة يهدف تغيير بُنيتها وتركيبتها التاريخية وتحويلها إلى “أمة شيعية” من جهة، وأنها متعاونة مع أعداء الأمة في تفتيت وحدتها وتبديد قوّتها في ساحات كثيرة من ساحات العالمين: العربي والإسلامي من جهة ثانية.
الخلاصة: بعد قيام “الثورة الإسلامية” لم تعد إيران دولة عادية، بل دولة تحمل “مشروعاً” هادفاً لتغيير بُنية الأمة وتركيبتها التاريخية، وتحويلها من “أمة إسلامية” إلى “أمة شيعية”، لذلك سخّرت إيران كل إمكانات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها: السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية والإعلامية والاجتماعية والفكرية والثقافية إلخ… لخدمة هذا المشروع وتحقيق أهدافه.
وقد ظهرت نتائج هذا المشروع في أكثر من قطر عربي وإسلامي، وأبرزها: التفتيت الطائفي من جهة، والانشغال عن مواجهة المشروع الصهيوني العالمي بالتنازع والاحتراب الداخلي من جهة ثانية، لذلك فمن الطبيعي أن نُصنّف إيران في خانة “العداوة”، لأن مشروعها “مُعادٍ” للأمة في أهدافه ونتائجه.
رابط المقال من الجزيرة نت كيف نتعامل مع إيران بعد الاتفاق النووي؟