إنّ المتصفح لتاريخ الأمة الإسلامية يجد أنّ إنجازات أمتنا الحضارية اتصفت بصفتين بارزتين هما:
يتجلى الإعمار الشامل في إنجازات أمتنا الحضارية التي لم تقتصر على مجال واحد بل شملت مختلف مجالات الحياة: الفضاء، البناء، الإنسان، الفن، الزراعة إلخ. . .
فقد درس المسلمون النجوم والكواكب، واكتشفوا حركة الأفلاك، وكان لهم فضل اكتشاف كثير من النجوم التي ما زالت تحمل الأسماء العربية وهي تزيد عن 150 اسماً ومصطلحاً.
فمن الأسماء العربية للنجوم على سبيل المثال:
وقد رسم المسلمون خرائط ملونة للسماء، وألّف عبد الرحمن الصوفي كتاباً عن النجوم الثوابت، وبيّن فيه مواضع ألف نجم، رصدها بنفسه، ووصفها وصفاً دقيقاً، وحدّد أقدارها بدقة متناهية تقرب من التقديرات الحديثة.
ومما يؤكد فضل علماء المسلمين وإنجازاتهم في علوم الفضاء إعلان الهيئة الفلكية العالمية التي تتألف من علماء من جميع أنحاء العالم أنها شكلت لجنة تسمى (لجنة تسمية تضاريس القمر) مهمتها دراسة فضل العلماء الذين ساهمت أبحاثهم على مر العصور في هبوط الإنسان على سطح القمر، فكان في مقدمة من اختارتهم (25) عالماً إسلامياً، وقررت وضع أسمائهم على تضاريس القمر ومن هؤلاء كما جاء في القرار:
أبو الفداء، ابن فرناس، ابن يونس الذي كان أول من قام بقياس مواقع الكواكب السيارة بعضها إلى بعض إبراهيم الفزاري، المرودي، الفرغاني، أبو عبد الله المهاني، أبو ريحان البيروني، القزويني، الخوارزمي، جابر بن حيان، والرحالة الإسلامي ابن بطوطة الذي ساهمت خرائطه في فك بعض الرموز على سطح القمر للتشابه الكبير بين سطحه وسطح الأرض، والعالم الإسلامي عمر الخيام الذي قام بأبحاث هامة في مرصده عن دوران الكواكب حول الشمس، والعالم الإسلامي المعاصر فاروق الباز.
لم يأت القرن التاسع الميلادي حتى كانت كل عاصمة إسلامية من الأندلس غرباً حتى الصين شرقاً ترصد بالمراصد الضخمة المزودة بالآلات المتنوعة والعلماء المتفرغين، ومن أشهرها:
وفي مجال البناء المعماري فقد شيّد المسلمون الجوامع الشاهقة والقصور الفاخرة وبنوا البيمارستانات الضخمة والحمامات والمطاعم الشعبية والاستراحات، وبنوا القلاع العسكرية والحصون والرُّبُط والأسوار حول المدن، وبنوا القناطر والخزانات والسدود للري وبنوا المراصد والجامعات العلمية.
كل ذلك بأسلوب الفن المعماري الإسلامي المميز. وقد استفاد المعماريون المسلمون من شتى العلوم والمعارف في عصرهم وطبّقوها في مبانيهم، ومن أهم هذه العلوم علم الميكانيكا، وعلم الكيمياء، وعلوم الطبيعة.
وقد راعى المسلمون في بناء بعض أبنيتهم خطر الاهتزازات الأرضية فقد لاحظت الحكومة الاسبانية حديثاً أنّ قصر الحمراء في قرطبة والذي بني في القرن التاسع الميلادي قد ظل صامداً حتى عصرنا هذا رغم تعرض المنطقة لعدة زلازل دمرت كل ما حوله من بيوت ومبان وبقي القصر قائماً..
فشكّلت لجان علمية لدراسة هذه الظاهرة فاكتشفوا أنّ بعض أعمدة القصر مفرغة من ا لداخل وفيها قوالب من الرصاص الذي يصب منصهراً وأنّ هذا التصميم الهندسي يمتص الصدمات العنيفة.
أما حوائط القصر فقد صنعت بنوعين من الحجارة على التوالي.. الحجارة الحمراء مع الحجر الرملي العادي وهذا التصميم يدعم الجدران ضد الاهتزازات.
وقد احتل نابليون قرطبة من 1808م حتى 1812م فجعل قصر الحمراء مركز قيادة لقواته..
وعندما أراد الانسحاب منها وضع المواد الناسفة في بعض أبراج القصر وهو يتصور أنه سيدمره كله..
ولكن العنف الذي دمر برجين في القصر لم يؤثر على باقي القصر الذي ظل حتى يومنا هذا يتحدى عناصر الزمن والزلازل ومحاولات التخريب البربرية.
وحرص المسلمون على إيصال صوت الخطيب والمقرئ في المساجد الواسعة إلى أبعد مصلّ عن طرق تصميم خاص في جدران المسجد والأعمدة لنقل الصوت من المنبر وتوزيعه على الساحة بكل وضوح.
وقد اعتنى علماء المسلمين بصحة الإنسان فكانت الإنجازات المتعددة في مجال الطب والأدوية، فقد عرفوا خصائص بعض النباتات وشكّلوا منها خلاصات طبية مختلفة.
كما كانت مركبات الزئبق والأفيون معروفة قبل اشتغال المسلمين بالصيدلة، غير أنهم أسهموا إسهاماً كبيراً في إتقان تحضيرها وانتشار استعمالها بعدما كانت تفتقر إلى جودة التحضير، وبعدما كانت لا توصف إلا في حالات نادرة.
كما حضّر الصيادلة المسلمون الترياق المؤلف من عشرات الأدوية لمقاومة السموم. وكانت المستشفيات عند المسلمين على نوعين:
وأول من فعل ذلك الوزير علي الجراح أيام الخليفة المقتدر بإشارة من سنان بن ثابت بن قرة.
وفي مجال الفنون عرف المسلمون الخط الجميل الذي زينت به المساجد والقصور والمدارس والمستشفيات والبيوت والعملات إلخ . . . حتى إنها طالت الأسلحة التي زينوها بآيات من القرآن الكريم للتبرّك أولاً، وللتجميل ثانياً.
لقد اهتم المسلمون بالزراعة وشهد لهم جورج سارتون في كتابه “المدخل إلى تاريخ العلم” حيث قال:
“لقد كان التراث الإسلامي في حقل الأعشاب أعظم بكثير من تراث أية أمة أخرى، وهذا الاتجاه الذي لا نعرف له نظيراً عند الأمم الغربية، يظهر من إنتاج علماء المسلمين في هذا المضمار”.
ومما يبرز اهتمامهم بالزراعة كثرة المؤلفات حول النبات ومنها الكتب التالية:
وفي مجال الصناعة توسع المسلمون في الصناعات الكيميائية، فهم أول من صنع الصابون من الصودا، والكلمة الأوروبية “Suvon” أصلها عربي وهو صابون.
كذلك برع المسلمون في صناعة الزجاج وطوّروا منه أنواعاً على درجة من النقاوة والجودة.
ومن أعظم إنجازات المسلمين اكتشاف الأحماض مثل النيتريك والكلوردريك التي اكتشفها الرازي عام 932م، وكذلك الأحماض العضوية مثل الخليك والليمونيك والطرطريك والنمليك. كذلك برع المسلمون في علم دباغة الجلود وتحضيرها.
وقد تجلى اتساع الفاعليات العقلية وهي الصفة الثانية للإنجازات الحضارية الإسلامية في عدة مظاهر:
ابتكر المسلمون عدة علوم ابتكاراً كاملاً ومنها علم أصول الفقه الذي ابتكره الشافعي، وعلم أصول العمران الذي وضع أصوله ابن خلدون، وعلم الكيمياء، وعلم الصيدلة، وعلم المثلثات، وعلم الجبر.
اكتشف المسلمون عدة اكتشافات كان لها أثر كبير في توجه الحياة البشرية وفي تغيير مجرى التاريخ وهي:
ساهم المسلمون في إضافات علمية في مختلف العلوم ومنها على سبيل المثال:
يعود الإعمار الشامل في الحضارة الإسلامية إلى غياب فكرة النجاسة عن العمل الدنيوي التي جاءت في الديانات الأخرى، بل على العكس اعتبر الإسلام العمل الدنيوي عبادة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
“وفي بضع أحدكم أجر”.
قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
قال: “أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”. (رواه مسلم).
وقد وجه الرسول المسلم إلى العمل الدنيوي وحتى إن قامت الساعة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
“إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها فإنّ له فيها أجراً” (رواه أحمد).
وفي هذا الحديث إشارة أيضاً إلى إكبار الإعمار والبناء والزراعة وقد نهى الإسلام عن الرهبنة بمعنى الانقطاع عن الناس وعن العمل الدنيوي واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد رهبانية هذه الأمة، فقد جاء عن أنس بن مالك عن النبي أنه قال:
“لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله” (رواه أحمد).
أما سعة الفاعليات العقلية فقد جاءت من الحكمة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم مترادفة مع الكتاب فقد قال تعالى:
(كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلِّمكم الكتابَ والحكمةَ ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون) (البقرة،151).
وقد قال تعالى أيضاً
(واذْكُروا نعمةَ اللهِ عليكم وما أَنزل عليكم مِنَ الكتابِ والحكمة ) (البقرة،231).
والحكمة تعني العقل وتعني إنزال الشيء وضعه المناسب، وقد فسرها بعض المفسرين بالسنة، ولكن الحكمة أوسع من السنة بدليل أنّ الحكمة أنزلها الله مع الأنبياء السابقين كما قال تعالى:
(فقد آتينا آلَ إبراهيمَ الحكمةَ وآتيناهم مُلْكاً عظيماً) (النساء،54).
وقد اعتبر الإسلام أصول المعرفة ثلاثة وهي: العلم العقلي المبني على الدليل والبرهان، والعلم الفطري المركوز في طبائع الناس كافة، والوحي الإلهي الداعي إلى الدين والإيمان والمثل والقيم الحضارية، وقد أجمل الأصول الثلاثة السابقة قوله تعالى:
(ومِنَ الناسِ مَن يجادلُ في اللهِ بغيرِ علمٍ ولا هُدىً ولا كِتابٍ منيرٍ) (لقمان،20).
وقد رسم الإسلام منهجاً للتحول العقلي يأخذ في توجهاته السببية التي تعني البحث في الأسباب التي تكمن وراء الظواهر والحوادث الاجتماعية، والطبيعية، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية البسيطة.
بل لابد من العمل والربط بين الأجزاء، والنظر إليها ككل متكامل، من أجل الوصول إلى معجزة الخلق ووحدانية الخالق.
ويأخذ في توجيهاته اعتماد الحواس كأحد مصادر تشكيل الحقيقة حيث منح الله الإنسان الحواس القادرة على إدراك وملاحظة الظروف والمتغيرات، قال:
(ولا تَقْفُ ما ليس لكَ به علمٌ إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً) (الإسراء،36).
وقال تعالى:
(أفلا ينظُرونَ إلى الإِبِلِ كيف خُلِقَتْ. وإلى السماءِ كيف رُفعتْ. وإلى الأرضِ كيف سُطِحَتْ) (الغاشية،17-20).