نقلت الأخبار أن هناك توجها عند محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله أن يستصدر قرار جديد من مجلس الأمن فيه إعلان دولة في الضفة وقطاع غزة على حدود عام 1967، وسيأتي هذا التوجه ضمن مظاهرة إعلامية مشابه لإعلانين سابقين: الأول: عام 1988 حيث أعلن عرفات في الجزائر قيام دولة فلسطينية بعد فك الإرتباط بين الضفتين الذي أعلنه الملك حسين في آب (أغسطس) 1988.
الثاني: في عام 1993 بعد توقيع اتفاقات أوسلو ودخول ياسر عرفات إلى قطاع غزة وإقامته في قصور الرئاسة في غزة ورام الله.
لكن تلك الإعلانات كانت تملك اسم الدولة ولاتملك حقيقتها، وهذا ما سيفعله محمود عباس إن توصل إلى هذا القرار، وذلك ما ألقيت الضوء عليه في مقال نشرته في الجزيرة نت بتاريخ 14-1-2010، وعنونته:
تتجه السلطة الفلسطينية في رام الله الآن إلى استصدار قرار جديد من مجلس الجامعة العربية يؤيّدها في التوجّه إلى مجلس الأمن من أجل الحصول على إعلان دولة في الضفة وقطاع غزّة على حدود عام 1967 من طرف واحد دون التفاهم مع إسرائيل.
فما الظروف المحيطة بالسلطة التي دفعتها إلى مثل هذا التوجّه؟ وما القيمة الحقيقية لهذا القرار؟
من المعروف أنّ السلطة برئاسة محمود عباس مارست المفاوضات مع إسرائيل في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت ووزيرة خارجيته ليفني، واستمرّت المفاوضات أكثر من سنة في عام 2008 ولعدّة جلسات بعد مؤتمر أنابوليس في الولايات المتحدة في نهاية عام 2007، الذي اعتبر منعطفًا في القضية الفلسطينية، ولم تنته المفاوضات إلى أيّ شيء حقيقي.
وجاءت حكومة أوباما في مطلع عام 2009 وانتعشت الآمال بمجيئه، وخطب في القاهرة في ربيع عام 2009، وأيّد السلطة الفلسطينية في اشتراطها وقف الاستيطان من أجل استئناف المفاوضات.
وبرز احتمال أن يضغط أوباما على إسرائيل من أجل تنفيذ هذا القرار، وأن يفعل كما فعل جورج بوش الأب في عام 1991 حيث أجبر إسرائيل على الذهاب إلى مدريد وعلى الدخول في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني عندما أوقف القروض الطويلة الأجل والتي كانت ستنالها إسرائيل.
لكنّ أوباما -بكل أسف- لم يضغط على إسرائيل، بعد أن تحدّاه نتنياهو بأنه لن يوقف الاستيطان، وبالعكس جاءت هيلاري كلينتون وامتدحت نتنياهو ومواقفه في الشهر الماضي، وطلبت من السلطة الفلسطينية التفاوض مع إسرائيل دون شروط مسبقة.
كل ذلك شكّل نهاية الطريق لمحمود عباس، فأعلن أنه لن يرشح نفسه لرئاسة السلطة في الانتخابات القادمة التي كان من المفترض أن تجري عام 2010، وعلّل ذلك بخذلان أميركا له، ويأسه من وعودها، وعدم وفائها بوقف الاستيطان.
من جانب آخر، انتهت المفاوضات مع حماس -التي رعتها مصر لسنة كاملة- إلى طريق مسدود ولم تنجح في لأم الشرخ بين طرفي الاختلاف الفلسطيني، فلم توقّع حماس على ورقة الصلح التي صاغتها مصر، ورضيت بها فتح، لكنّ حماس اشترطت إدخال تعديلات عليها، وهذا الفشل في الوساطة المصرية أدّى إلى تكريس الانقسام الفلسطيني.
أمام هذه الصورة المأساوية المحيطة بسلطة عباس بشقيها: الفلسطيني والدولي، طرحت سلطة عباس التوجّه إلى مجلس الأمن من أجل استصدار قرار بإقامة دولة على الأرض المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس، فهل هذه أول مرة تتجه فيها منظمة التحرير إلى إعلان دولة فلسطينية؟ وما قيمة هذا التوجه؟
إنّ الدولة هدف مشروع لأيّة عملية تحريرية، وهذا ما قامت به كل الحركات التحريرية التي انتصرت في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بدءًا من الصين ومرورًا بكينيا وغانا وغينيا والجزائر وانتهاء بفيتنام وكوبا.
ومن المؤكّد أنّ الدولة كانت تتويجًا لعملية تحريرية حقيقية، أصبحت الحركة التحريرية فيها السيد والقَيِّم والفاعل على الأرض، وأصبح العدو منهزمًا يلملم أوراقه ويرتّبها من أجل الرحيل عن البلد المحتل، ثم تقيم الحركة التحريرية بعد ذلك حكومة تعبّر عن قيام هذه الدولة، هذا ما عهدناه خلال القرنين الماضيين مع كل الحركات التحريرية، فكيف جرت الأمور عندنا في القضية الفلسطينية؟
بدأت حركة التحرير الفلسطيني (فتح) ثورتها في عام 1965 من أجل تحرير الوطن الفلسطيني من قبضة المحتلّين الصهاينة دون ارتباط بأي مضمون أيديولوجي، مما جعلها في تصادم مع حركة القومية العربية التي كان يقودها جمال عبد الناصر.
ووقعت حرب عام 1967 التي انتهت بنكسة شنيعة احتلّت فيها إسرائيل أراضي من ثلاث دول عربية: مصر والأردن وسورية، فاحتلّت سيناء وغزّة من مصر، وأخذت الضفة الغربية والقدس من الأردن، وأخذت هضبة الجولان من سورية، ثم اضطرت ظروف النكسة جمال عبد الناصر وحركة القومية العربية التي يقودها إلى التعاون مع حركة (فتح) من أجل استرداد الأراضي المحتلّة من خلال العمل الفدائي.
وهنا بدأ التنازع بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية على قيادة الفلسطينيين وتمثيلهم، بعد أن كان يمثّلهم الطرفان، ثم اعترف مؤتمر القمّة العربي الذي انعقد عام 1974 بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
واضطر الأردن بعد هذا القرار إلى التنازل عن تمثيل الفلسطينيين، لكنّ الضفة الغربية المحتلّة بقيت مرتبطة به أمام الدول العربية والهيئات الدولية نتيجة العلاقة التاريخية القديمة التي بدأت عام 1948 بانضمام الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية بتشكيل المملكة الأردنية الهاشمية عام 1949.
وأعلن ياسر عرفات في الجزائر في تشرين الثاني عام 1988 قيام دولة فلسطين، وطلب اعتراف دول العالم بها، وكان الذي سبّب ذلك تخلّي الأردن عن مسؤوليته عن الضفة الغربية في نهاية تموز (يوليو) 1988 بسبب الانتفاضة في غزة والضفة، التي نقلت الكفاح المسلّح لأول مرّة من خارج الأرض المحتلّة إلى داخلها.
فهل يعتبر تخلّي الأردن عن مسؤولية الضفة الغربية لمنظمة التحرير تحريرًا يستدعي إقامة دولة من قِبل ياسر عرفات؟
الحقيقة أنّ ذلك لا يعتبر تحريرًا بأي شكل من الأشكال، لأنّ منظمة التحرير لم تسيطر على أي شبر من الضفة الغربية وبقيت إسرائيل مسيطرة على كل شيء في الضفة الغربية، ولم يحدث سوى اضطرار الأردن للتنازل عن مسؤوليته الأدبية والتاريخية عن الضفة الغربية نتيجة ظروفه الداخلية.
ثم تطوّرت الأمور فجرت مفاوضات سرية في صيف عام 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل، وأدّت هذه المفاوضات إلى التوقيع على اتفاق بين إسرائيل ومنظمة التحرير على إقامة سلطة فلسطينية في غزة وجانب من الضفة الغربية، ثم دخل ياسر عرفات إلى غزة عام 1994، وأقام سلطة وطنية لكنها كانت خالية من أي مضمون حقيقي للسلطة ، إذ كان لا يملك شيئًا من مقوّمات السيادة لا على الأرض ولا على الحدود ولا على المياه ولا على الأجواء ولا على حق الخروج والدخول إلخ…
ومن الجليّ أن منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات وحركة (فتح) التي تعتبر التنظيم الفلسطيني الرئيسي لم يحصلوا على أية سلطة حقيقية بأي معنى من المعاني لا في حالة إعلان قيام الدولة عام 1988 ولا في حال دخول ياسر عرفات إلى غزة عام 1994، وأكبر دليل على ذلك أنّ شارون رئيس وزراء إسرائيل حاصر ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية حتى مات في مقر السلطة في رام الله عام 2004.
وفي اعتقادي أن هذا هو الفخ الذي وقعت فيه حماس عندما شكّلت الحكومة عام 2006 بعد أن فازت بالانتخابات وتنافست مع فتح على السلطة والقيادة، وكان عليها أن تدرك أنه ليست هناك سلطة حقيقية بل هناك سلطة على ورق, وهذا ما قادها إلى فخ أكبر وهو الاستيلاء على غزّة, فوقعت في تبعات إدارة شؤون غزة, فحماس تتحمل مسؤوليات ولا تملك صلاحيات, وكيف تكون هناك صلاحيات وأنت تحت الاحتلال؟!
والآن بعد أن عرضنا للظروف التي دفعت محمود عباس للتوجه إلى مجلس الأمن من أجل استصدار قرار بإقامة دولة فلسطينية, وهي ظروف خانقة وسوداء ومظلمة بكل جوانبها الداخلية والسياسية إلخ, نتساءل: ما قيمة هذا التوجه؟ وما فائدته للقضية الفلسطينية؟
وجوابًا نقول: لا قيمة لسعي محمود عباس إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بإعلان دولة فلسطينية على حدود عام 67، وسيكون هذا القرار مضافًا إلى القرارات التي تخص فلسطين منذ عام 1947، والتي لم تنفّذ، وسيكون إنجازًا وهميًّا، لأنه يعلن دولة ولا يملك حقيقة الدولة: وهي السلطة والسيادة والنفوذ على الأرض، والتي هي حتى الآن في يد إسرائيل، والتي لن تتخلّى عنها إلا بالتحرير الحقيقي، ودحر الاحتلال.
وهذا الاستصدار هروب إلى الأمام، وعدم مواجهة حقيقة الأوضاع: وهي أنّ هناك احتلالاً، وهذا الاحتلال يجب أن يجابه بالمقاومة وبالمجاهدة، وإلا فإنه سيتجذّر في الأرض بل سيزداد قضمًا لها كما هو حاصل في موقفه من قضية الاستيطان وغيرها من القضايا.
الخلاصة أنّ هذا التوجّه إلى مجلس الأمن هو هروب من الظروف السيئة المحيطة بالسلطة الفلسطينية، وإيهام للشعب بتحقيق إنجازات وانتصارات، وهو سراب تسوّقه السلطة للشعب الفلسطيني في محاولة لإطالة عمرها ونفوذها.