الفكر القومي العربي وإعاقة النهضة

طرح شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين سؤالاً: لماذا تأخّرنا وتقدّم غيرنا؟ وهو سؤال جوهري أجاب عليه في رسالة كتبها، وأجاب غيره عن السؤال نفسه، وبغض النظر عن قيمة الأجوبة فيجب أن يتغيّر السؤال -في تقديري- بعد مرور ما يقرب من قرن على سؤال شكيب أرسلان ليصبح: لماذا لم ننهض؟

        من الجليّ الواضح أنّ النهضة لم تتحقّق، مع أنها شغلت أحلام عدّة أجيال من أبناء أمّتنا، واستنـزفت طاقات وجهود معظم قيادات الأمّة، واستهلكت أوقاتاً ودماءً، ويتضح عدم تحقّق النهضة في عدّة مظاهر، منها: الفشل في تحقيق الوحدة، والفشل في إقامة مجتمع صناعي، والفشل في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، والفشل في التحرّر من التبعية والاستعمار، والفشل في تحقيق نهضة علمية، والفشل في مواجهة اسرائيل في عدّة حروب، والفشل في إلغاء أُمّية القراءة والكتابة التي بلغت أربعين في المائة إلخ… والسؤال الآن ثانية: لماذا لم ننهض؟ ولماذا فشلنا في تحقيق كل مظاهر النهضة؟

        للإجابة على السؤال السابق يجب أن يتجه البحث والتقصّي والتدقيق إلى الفكر القومي العربي، لأنه هو الفكر الذي قاد المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، وهو الذي أصبح فكر القيادات النافذة والفاعلة في عدد من الأقطار العربية، وهو الذي قاد السياسة الإعلامية في المنطقة، وهو الذي رسم البرامج التربوية، وهو الذي خطّط للبناء الاقتصادي، وهو الذي بنى المناهج العسكرية القتالية إلخ…، ويتأكّد كل ذلك إذا علمنا أنّ هذا الفكر العربي هو الذي حكم منطقة بلاد الشام والعراق بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك بعد أن أعلن الشريف حسين الثورة العربية الكبرى عام 1916، والتي تبنّت الفكر القومي العربي في مواجهة الخلافة العثمانية والقومية التركية، وقد صاغ الملك فيصل دولة العراق صياغة قومية عربية، وقد ساعده في ذلك ساطع الحصري رائد القومية العربية وأبرز منظّريها على الإطلاق في هذه الصياغة والبناء، فقد بنى ساطع الحصري المناهج التربوية والسياسية والإعلامية إلخ…

ونظّر لترسيخ مفهوم القومية العربية في مواجهة الايديولوجية الدينية التي كانت سائدة من قبل، ولم يتوقّف نفوذ الفكر القومي العربي عند العراق وبلاد الشام، لكنّ نطاقة اتسع بعد الحرب العالمية الثانية، فانتشر في مصر على يد جمال عبد الناصر بعد ثورة يوليو 1952، وحلّ محل القومية الفرعونية التي حكمت مصر بعد الحرب العالمية الأولى من خلال حزب الوفد وسعد زغلول، ثم استطاع جمال عبد الناصر أن يوسّع نطاق الفكر القومي العربي، فأصبح هو الفكر النافذ في اليمن وفي عدن وفي السودان وفي الجزائر وفي ليبيا إلخ…، إنّ هذا الاتساع في نطاق سيطرة الفكر القومي العربي جعله أكثر قدرة على تحقيق النهضة، لكنه فشل مع ذلك، فلماذا كان هذا الفشل؟ يجب أن يتجه التدقيق والتمحيص والتبيّن إلى مضمون الفكر القومي العربي، وبُنيته، ومحتواه، وعناصره الداخلية، ولكن قبل القيام بذلك أود أن أبرز ملاحظتين هما:

الأولى: أنّ الأهداف التي وضعتها الأمّة من أجل تحقيق النهضة من مثل: الوحدة، وبناء المجتمع الصناعي، وتحقيق التحرّر والاستقلال والتخلّص من التبعية، وبناء جيوش قوية، وتحقيق نهضة علمية إلخ… كلها أهداف واقعية وسليمة وممكنة التحقيق، وليس كما يدّعي بعض المغرضين والمنهزمين أمام الغرب بأنها أهداف خيالية، وأنها أوهام، وأننا كنا نركض وراء سراب وأضغاث أحلام، لذلك علينا أن نتخلّى عنها ونعود إلى القطرية، وإلى الاستسلام إلى الغرب واسرائيل إلخ…، لا أرى ذلك ولا أرى القصور في الأهداف التي رسمتها الأمّة، لكنّ القصور في مضمون الفكر القومي العربي الذي حاول تحقيق هذه الأهداف، وهو ما سنبيّنه بعد قليل.

الثانية: يقرن أصحاب التيار القومي العروبة بالقومية العربية ويقولون إنهما صنوان، وهم عروبيون وقوميون عرب في الوقت نفسه، وأنهم في تبنّيهم القومية العربية يحمون العروبة من أعدائها كالقوميين الأتراك، والحقيقة إنّ القومية العربية غير العروبة، فالقومية العربية ايديولوجيا حديثة منقولة عن الغرب، والعروبة إرث ثقافي ينبني على أمرين هما: الجنس العربي، واللغة العربية، وهذه العروبة بهذا التحديد كانت لصيقة بالإسلام، ووضعها متين وقوي، ولا خطر عليها، وكل ما حصل في التاريخ كان بعض التشويش من قبل الشعوبية، لكن أمكن حصره والتغلّب عليه.

        والآن لننتقل إلى التدقيق في بُنية الفكر القومي العربي وفي المحتوى الايديولوجي للقومية العربية، لأنها هي التي تتحمّل المسؤولية الأكبر -في تقديري- عن فشل النهضة، فماذا نجد؟

أولاً: نجد أنّ الفكر القومي العربي انطلق من أجل تحديد العوامل التي بنت الأمّة من المقايسة والمشابهة بين أمّتنا والأمّة الألمانية، وأسقط الوضع الألماني على وضع أمّتنا، ولم ينطلق من التحليل العضوي الداخلي لأحوال هذه الأمّة للتوصّل إلى العوامل التي بنتها، فساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي والذي يُعتبر المنظّر الرئيسي لهذا الفكر، والأغزر إنتاجاً، حدّد العوامل التي بنت الأمّة العربية التي تقطن -الآن- من المغرب إلى الخليج بعاملين، هما: اللغة والتاريخ، وهو عندما فعل ذلك انطلق من المشابهة بين الأمّة الألمانية والأمّة العربية، وقاس وضع الأمّة العربية المجزّأ على وضع الأمّة الألمانية في القرن التاسع عشر، ووجد تشابهاً بين عراقة اللغة الألمانية واللغة العربية ورسوخهما في شعبيهما، كما نظر إلى عمق التاريخ في الشعبين، فتوصّل إلى أنّ الأمّة العربية مثل الأمّة الألمانية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وأنّ المشكلة الأكبر التي تواجه الأمّة العربية هي التجزئة، كما أنها هي المشكلة الأكبر التي واجهت ألمانيا في القرن التاسع عشر وتغلّبت عليها بالتوصّل إلى الوحدة من خلال مراحل تدريجية، فساطع الحصري انطلق من المقايسة والمشابهة بين الأمّتين الألمانية والعربية، ولم ينطلق من دراسة واقع الأمّة العربية من أجل تحديد العوامل التي بنتها، فلم يحلّل الواقع بما يشتمل عليه من أخلاق ومواجد وعواطف وأشواق وأذواق وتطلّعات وبناء نفسي وعقلي إلخ…، فإنّ تحليل هذا الواقع سيجعله يتوصّل إلى العوامل الموضوعية التي بنت الأمّة، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك.

ثانياً: لا يستطيع الفكر القومي العربي أن يفسّر لنا من خلال عاملي اللغة والتاريخ
الوحدة الثقافية في الأمّة، ولا وحدة العادات والتقاليد، ولا وحدة المشاعر، ولا وحدة الآمال، ولا وحدة الآلام، ولا وحدة الأخلاق، ولا وحدة الخيال، ولا وحدة البناء النفسي، ولا وحدة البناء العقلي إلخ…، ولم يقم ساطع الحصري ولا غيره من المفكّرين القوميين بذلك أصلاً، ولا يمكن أن نفسّر الوحدة في كل الأمور التي ذكرناها سابقاً إلا من خلال الدين الإسلامي بكل معطياته، ومن خلال المفردات التي قرّرها وتعاهدتها الأمّة على مدار ما يزيد من ألف سنة من مثل الإيمان بالإله الواحد الأحد، ووجود الآخرة، والإيمان بعالم الغيب من ملائكة وشياطين، والحثّ على تزكية النفوس، والتوجيه إلى أكل الحلال، والابتعاد عن تناول الحرام، والأمر بالتطهّر والعفاف، والابتعاد عن النجاسة والفجور، والتطلّع إلى الآخرة، -وفي الوقت نفسه- التطلّع إلى الدنيا والتمتّع بالطيبات، ووجود السنّة المشرّفة التي تأمر بمكارم الأخلاق، وتقرّر التميّز بالعبادات والشعائر عن الآخرين، والإعلاء من شأن العقل والحثّ على التفكير، والأمر بالنظر إلى سُنن التاريخ، والتوجيه إلى التعامل مع الحواس وعالم الشهادة وبأنه صنو عالم الغيب إلخ…، إنّ تلك المفردات التي ذكرناها -وهناك عشرات لم نذكرها- هي التي يمكن أن تفسّر لنا الوحدة الثقافية عند هذه الأمّة، وغيرها من عوامل الوحدة، والتي لا يمكن أن تفسّر إلا من خلال مفردات الدين الإسلامي وأفكاره وحقائقه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه إلخ…

ثالثاً: اعتبر ساطع الحصري وغيره من المفكّرين القوميين العرب أنّ عاملي اللغة والتاريخ هما العاملان الرئيسيان في تكوين الأمّة العربية، فقد اعتبر ساطع الحصري: “أنّ اللغة تكوّن روح الأمّة وحياتها، والتاريخ يكوّن ذاكرة الأمّة وشعورها”. ولكنّ السؤال الذي يرد: ما هو دور الدين الإسلامي في جعل هذين العنصرين بهذا التأثير في الأمّة العربية؟

        لقد انبثق دور الدين الإسلامي الكبير في خدمة اللغة العربية والحفاظ عليها من أنّ معجزة الرسول الأولى والكبرى هي القرآن الكريم هي معجزة لغوية بيانية بالدرجة الأولى، وبيّن الله -تعالى- أنه لن يستطيع أن يأتي أحد بمثل هذا القرآن في بيانه ولغته فقال تعالى:

(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء،88).

وقد طلب الله -تعالى- من محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين على أن يأتوا بمثل القرآن فقال تعالى:

(فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) (الطور،34).

ثم طلب -تعالى- من محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مفتريات فقال تعالى:

(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) (هود،13).

ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فقال تعالى:

(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) (البقرة،23).

وبيّن الله تعالى في مواضع أخرى من القرآن الكريم أنّ هذا القرآن الكريم عربي فقال تعالى:

(إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (يوسف،2).

وقال أيضاً:

(إنّا أنزلناه قرآناً عربياً) (الرعد،37).

وبيّن الله في مواضع أخرى أنّ القرآن عربي البيان فقال تعالى:

(نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين) (الشعراء،193-195).

وقال تعالى:

(لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل،103).

        إنّ كون هذا القرآن الكريم معجزة الرسول الكبرى، وكونه يحتوي كلام الله، جعله في موقع الصدارة من اهتمامات المسلمين، لذلك اهتموا بلغته، وحفظه، ومعنى آياته، وبيانه، وتفسيره، ومناحي إعجازه إلخ…، ولمّا كان ذلك كله مرتبطاً باللغة العربية جاء الاهتمام باللغة العربية، ولم تعد اللغة العربية لغة القرآن الكريم فحسب بل أصبحت لغة العبادة والصلاة والعلم، مما جعلها لغة الأمّة بكل أجناسها وأعراقها، ثم أصبحت لغة الحضارة الإسلامية، وانتقل تأثيرها إلى لغات الأقوام التي دخلت الإسلام، فأصبح الحرف العربي هو الذي تكتب به اللغة التركية واللغة الفارسية واللغة الهندية إلخ…، ودخلت كثير من ألفاظ اللغة العربية إلى لغات المسلمين الأخرى، كما أصبحت اللغة العربية هي لغة التفاهم بين كل شعوب الأمّة الإسلامية.

وهناك سؤال آخر ينبني على حقيقة كون القرآن الكريم معجزة لغوية بيانية بالدرجة الأولى، هو: كيف جعل الدين الإسلامي اللغة العربية عاملاً رئيسياً من عوامل بناء أمّتنا؟ وماذا قدّم في سبيل ذلك؟ وما الأعمال التي قام بها علماء الأمّة ورجالاتها؟

من الواضح أنّ القرآن الكريم هو الذي حفظ اللغة العربية، فقد كانت هناك عدّة لهجات عربية في الجزيرة العربية قبل نزول القرآن الكريم، وكان يمكن أن تتطوّر كل لهجة لتكون لغة مستقلة بالتالي كان يمكن أن تنشأ عدة لغات في الجزيرة العربية نتيجة وجود اللهجات المختلفة للقبائل، لكنّ القرآن الكريم عندما كتب بلسان قريش، جعل الديمومة والهيمنة لهذه اللهجة على غيرها من اللهجات مما أنشأ لغة عربية واحدة وقضى على إمكانية نشوء عدّة لغات عربية، وقد أكّد عثمان  -رضي الله عنه- هذا المعنى عندما قال للرجال الذين نسخوا عدّة نسخ من المصحف الذي كان عند حفصة بنت عمر زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسلها إلى مختلف الأمصار، عندما قال لهم:

“إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم” (صحيح البخاري).

        ثم إنّ الرعاية التي رعاها المسلمون للعربية لغة القرآن الكريم كانت انطلاقاً من ظروف دينية، فعندما وضع أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو، وأتم ذلك سيبيويه في مصنفه “الكتاب”، وعندما نقّط حروف العربية وشكّلها كل من أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي، وعندما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي أصول معاجم اللغة، وعندما جمع العلماء مفردات العربية ومعانيها في معاجم لغوية، إنما قاموا بكل هاتيك الأعمال من أجل خدمة القرآن الكريم من أن يدخله التحريف واللحن، ومن أجل خدمة آيات القرآن الكريم أن تفهم على الوجه الصحيح. ومما يؤكّد الدافع الديني وراء تلك الخدمات الجلّى التي قدّمها أولئك الرجال النوابغ أنّ قسماً كبيراً منهم ليسوا عرباً وليس لسانهم العربية، إنما اهتموا بالعربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها وضبط ألفاظها انطلاقاً من دينهم وإسلامهم.

        أمّا بالنسبة لوحدة التاريخ فقد ارتبط تاريخ الأمّة العربية بتاريخ الإسلام بشكل كامل، فقد كانت وقائع نشأة الأمّة مرتبطة بالصراع مع مشركي مكة والمدينة حول حقائق الإسلام، ثم ارتبط تاريخ الأمّة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بحروب مع مشركي الجزيرة العربية من أجل نشر الإسلام في الجزيرة العربية، ثم ارتبط بالفتوحات الكبيرة في عهد الخلفاء الراشدين من أجل نشر الإسلام في الدول المجاورة فكانت معارك اليرموك والقادسية ونهاوند وفتح مصر إلخ…، ثم ارتبط تاريخ الأمّة في عهد الدولة الأموية بالصراع مع الدولة الرومانية من أجل نشر الإسلام وتوسيع رقعة خلافته، ثم ارتبط تاريخ الأمّة في عهد الدولة العباسية في جانب كبير منه في مواجهة الحملات الصليبية التي استهدفت اقتلاع الإسلام وإعادة السيطرة المسيحية على بلاد الشام بشكل عام وعلى القدس بشكل خاص، لكنّ هذه الحملات فشلت بعد قتال استمر قرنين من الزمان اشتركت فيه كل دول وشعوب أوروبا، وقد ارتبط تاريخ الأمّة في عهد الدولة المملوكية في الدفاع عن الإسلام في مواجهة الغزوة المغولية التي هدمت الجانب الشرقي من الخلافة الإسلامية.

        ذلك جانب عن الارتباط السياسي بين الدول التي قامت على مدار التاريخ الماضي وبين الإسلام، أمّا بقية جوانب التاريخ كالناحية العلمية والفنية والاجتماعية والاقتصادية إلخ…، فهي مرتبطة بالإسلام أشد الارتباط، ولو أخذنا مثالاً العلوم، لوجدنا أن العلوم الإسلامية المرتبطة بالقرآن والسنّة كاللغة العربية وعلوم القرآن وعلوم الحديث كلها قامت لحفظ نصوص القرآن والحديث، ولفهم معناها، أمّا العلوم الأخرى كالفلك والجبر والرياضيات فنجد أنّ جانباً كبيراً منها مرتبط بالإسلام، فنجد أنّ علم الفلك وتقدمه قام من أجل تحديد قبلة المسجد، وتحديد أوقات الصلوات، ونجد أنّ علوم الجبر والرياضيات قامت من أجل المساعدة على حل مشاكل الميراث وتوزيع الإرث، وجباية الخراج، وتحديد أنصبة الزكاة ومقاديرها في مختلف المجالات الزراعية والتجارية إلخ…، أمّا انبثاق التجريب الذي هو أصل العلوم جميعاً، والذي أخذته أوروبا من حضارتنا، فقد جاء نتيجة توجيه الإسلام إلى احترام الحواس واستخدامها في الحكم على الأشياء، وإلى الحثّ على التفكير، واحترام العقل فيما يتعلّق بعالم الشهادة، أمّا انبثاق علم العمران الذي أصبح علم الاجتماع في أوروبا فقد جاء نتيجة حثّ الإسلام المسلمين على السير في الأرض ورؤية مصير الأمم الغابرة إلخ… أمّا الأمور الفنية كالتجويد والتفنّن في الخط العربي فيعود في جانب كبير منه إلى موقف الإسلام من التصوير والتمثيل وتركيزه على الجانب العملي في حياة الفرد. أمّا الأمور الاجتماعية كوجود الأُسرة، والترابط الاجتماعي الشديد، والحرص على الطهارة والعفاف إلخ… فقد جاء نتيجة تقديس مؤسسة الزواج في الدين الإسلامي، وتحريمه الزنا، والأمر بغض البصر، ونتيجة الحرص على ستر العورات إلخ…، أمّا الأمور الاقتصادية في الأمّة فهي مرتبطة بشكل أكيد بأحكام الزكاة والخراج وتحريم الربا والتطفيف والاحتكار وبأحكام الحثّ على العمل، وامتداح الكسب والتعفّف عن السؤال، والحضّ على إعمار الأرض إلخ…

        الخلاصة إنّ الدين الإسلامي هو الذي صاغ هذه العاملين ولا يمكن أن نفسّر دورهما في إنشاء وحدة الأمّة إلا من خلال الدين الإسلامي، وهو ما تجاهله ساطع الحصري حيناً، وأنكره حيناً آخر.

رابعاً: عندما استبعد الفكر القومي العربي الدين الإسلامي من عناصر بناء هذه الأمّة كان فكراً فقيراً معنوياً، وقد أشار إلى هذا المعنى الدكتور محمد عابد الجابري في إحدى كتاباته، وقد سهّل هذا الفقر المعنوي استجلاب الفكر القومي العربي لمضامين أخرى مثل الاشتراكية العلمية في بعض الأحيان، كما سهّل غياب الفكر القومي العربي بصورة كاملة في أحيان أخرى، وأبرز مثال على ذلك حركة القوميين العرب التي بدأت متطرّفة ومتشدّدة في توجّهها القومي العربي، ثم أصبحت ماركسية بعد ذلك بشكل كامل حتى كدنا أن ننسى أنها ذات توجّه قومي عربي في أصل نشأتها.

خامساً: إنّ هذا الفقر المعنوي هو الذي جعل الفكر القومي في معظم مراحله نخبوياً، فالبعثيون الذين قادوا الانقلاب في العراق عام 1968 كانوا بضع عشرات، وكذلك القوميون العرب بعد أكثر من عقدين، وقس على ذلك بقية التجارب القومية، وربما كان الاستثناء الوحيد هو التجربة الناصرية في مصر، والسبب في ذلك أنّ الشعارات الوطنية مثل: الوحدة، والتحرير، ومقاومة الاستعمار، وبناء التصنيع إلخ…

كانت هي الغالبة على طرح جمال عبد الناصر، وكان المضمون الفكري باهتاً محدود البروز، ويؤكّد ذلك أنّ السادات استطاع أن يعود إلى مصر الفرعونية دون أن يجد أي رصيد فكري يقاومه، ويحول بينه وبين النجاح في ذلك، ويدل على أنّ الجماهير التي تبعت عبد الناصر لم تتبع مضموناً فكرياً إنما تبعت شعارات طرحها، مما جعل السادات قادراً على أن ينتقل إلى نقيض ما طرحه عبد الناصر إلى القومية المصرية وإلى الرأسمالية، ضدّاً على القومية العربية والاشتراكية.

        رأينا -فيما سبق- دور الفكر القومي العربي في إعاقة النهضة وأسباب ذلك، ومن الواضح أنه يترتّب على أصحاب هذا الفكر وممثّليه أن يعيدوا النظر في بُنيته، والعوامل التي قام عليها إذا كانوا يرغبون في أن يكون لهذا الفكر دور في بناء الأمّة ونهضتها في المراحل القادمة.

 

اترك رد