أشار الكاتب محمود الزايد في حواره مع جورج طرابيشي والعفيف الأخضر حول التغريب والتحديث في عدد “الحياة” الصادر بتاريخ 12/سبتمبر/1997م إلى وجود طرفين في الحوار:
دعاة الحداثة ودعاة الأصالة، وعرض وجهة نظر كل طرف وسرد حججه، وبيّن أن شعوب المنطقة أخذت التكنولوجيا الغربية بشكل واسع، وأن دولنا ومؤسساتنا مبنيّة على مثال الغرب ونموذجه، ومع ذلك لم يصبح التحديث والعلمانية جزءاً من بنية المنطقة الحياتية وكيانها ، وقد حمّل الكاتب دعاة الأصالة مسؤولية ذلك.
وأرجّح أنه بالغ في حكمه، وذلك لأن دعاة الأصالة لم يكونوا في مركز الفعل والتأثير والقرار خلال القرن الماضي، بل كانوا في دائرة الانفعال والتأثر، وأقترح البحث عن سبب عدم انتقالنا إلى التشكّل والفعل الحضاريين في بنية الفكر القومي العربي الذي قاد المنطقة وحكمها وأثّر في كل جوانب حياة المجتمع العربي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية إلخ…
ويصبح السؤال هو : لماذا لم يستطع الفكر القومي العربي أن ينقل المنطقة إلى التشكّل والفعل الحضاريين مع أنه متوافق في طروحاته مع مقولتي التحديث والعلمانية في كل تفصيلاتهما ؟ ونحن من أجل أن نجيب على السؤال السابق، يجب أن ندرس أهداف الفكر القومي العربي ووسائله، ومدى نجاحه في تحقيق تلك الأهداف.
لقد استهدف الفكر القومي العربي تكوين أمة عربية ذات وحدة سياسية وذات دور حضاري مستقل، وكانت أداته في ذلك القومية العربية التي قال منظروها إن هناك نوعين من العوامل تشكلانها هما: العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية.
أما العوامل الموضوعية فهي اللغة الواحدة والتاريخ الواحد والثقافة الواحدة والاقليم الواحد والعادات والتقاليد الواحدة والآمال الواحدة والمصالح المشتركة الواحدة والشعور بالحاجة إلى السلطة الواحدة، أما العوامل الذاتية فتتعلق بوعي الأفراد بأن لهم شخصية متميزة ومنفصلة وتدفعهم إلى التعبير التنظيمي عن هذه الشخصية.
وقد ركّز المفكرون الفرنسيون على الدولة واعتبروها المعيار الأهم، فوحدة الأمة وشخصيتها ممتدة من التنظيم السياسي ولذلك فإن الدولة عندهم سابقة على الأمة وتكون سبب وجودها والعكس غير صحيح. أما المفكرون الألمان فقد ركّزوا على عنصر اللغة والثقافة بوصفه أهم عناصر تحديد الأمة فقد آمنوا أن لكل أمة طابعها الخاص المميز وأن هذا الطابع مستمد من اللغة المشتركة.
وقد مال المفكرون القوميون العرب وأبرزهم ساطع الحصري إلى المدرسة الألمانية، فقد اعتبر الحصري أن أسّ الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ، لأن الوحدة في هذين المبدأين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر والتاريخ، وحدة الآلام والآمال، وحدة الثقافة، وبكل ذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمة واحدة، متميزة عن الأمم الأخرى.
وينتهي الحصري في حديثه عن القومية فيبين عمل كل من اللغة والتاريخ فيقول:
“اللغة تكوّن روح الأمة وحياتها. التاريخ: يكوّن ذاكرة الأمة وشعورها.”
والآن: ماذا كانت صورة المنطقة عندما بدأ الفكر القومي العربي عمله لتحقيق أهدافه؟
كانت المنطقة تنتمي إلى الأمة الإسلامية التي كان تاريخها يمتد ثلاثة عشر قرناً من الزمان ، وكانت تحتوي أجناساً وأعراقاً وشعوباً مختلفة، وكان من ضمنها الجنس العربي الذي كان يحتل وضعاً طبيعياً في هذه الأمة، ولم يكن يعاني أية مشكلة فيها.
لذلك اصطدم الفكر القومي العربي بهذه الأمة عندما سعى إلى تحقيق أهدافه في بلاد الشام والعراق والحجاز، ووجد أن العوامل الذاتية والموضوعية التي يجب أن يكوّن منها الأمة العربية قد شغلتها الأمة الإسلامية، فلو أخذنا العوامل الذاتية لوجدنا أن وعي الناس الذاتي كان مرتبطاً بالأمة الإسلامية ومتجهاً إليها.
أما العوامل الموضوعية الأخرى للقومية والتي كان يفترض أن تكون محل تشكيل وصياغة من الفكر القومي العربي من أجل التوصل إلى الأمة العربية مثل: التاريخ والثقافة، والعادات والتقاليد، والآمال، والمصالح المشتركة، والثقافة الواحدة، فقد كانت كلها مرتبطة بالأمة الإسلامية ارتباطاً وثيقاً.
فلو أخذنا التاريخ لوجدناه مرتبطاً بمعارك الأمة الإسلامية مع أعدائها، وبانتصار المسلمين وهزيمتهم، وبقوة دولة المسلمين وضعفها.
ولو نظرنا إلى الثقافة لوجدناها مرتبطة بموازين الإسلام وتوجيهاته وقيمه، ولو أخذنا العادات والتقاليد لوجدناها منبثقة من الحلال والحرام اللذين أقرهما الشرع الإسلامي.
ولو دققنا في الآمال المشتركة لوجدناها مرتبطة بحب انتصار الإسلام والرغبة في انتشاره ، وبموالاة المسلمين ومعاداة الكافرين.
أما اللغة العربية فإن ارتباطها بالقرآن الكريم لا يحتاج إلى كبير توضيح، فالقرآن الكريم هو الذي حفظ اللغة العربية على صورتها الحالية ولولا القرآن الكريم لاندثرت أو أصبحت لغات متعددة، أما وضع النحو وتنقيط الحروف وتشكيل الكلمات وجمع المفردات في معاجم لغوية فكل تلك الأعمال قام بها اللغويون والنحاة والصرفيون من أجل حفظ ألفاظ القرآن الكريم من اللحن والتغيير، ومن أجل المساعدة على فهمه الفهم السليم.
ومما يؤكد ارتباط اللغة العربية بالأمة الإسلامية أن معظم الذين قاموا بتلك الجهود والابتكارات من غير العرب وليس لسانهم العربية، وإنما اهتموا باللغة العربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها، لأنها لغة دينهم وقرآنهم ورسولهم وأمتهم.
لم يستطع الفكر القومي العربي تكوين أمة عربية، وتعثر في ذلك، وإن عدم استطاعته وتعثّره في تكوين الأمة العربية يفسّران عجز العرب عن أي فعل حضاري خلال القرن الماضي، ويفسران كثيراً من الظواهر التي تعرّض لها الكاتب محمود الزايد تفسيراً أدق، ومنها قوله:
“والحال إن الحداثة والتغريب يجمعان بين الشعوب الأوروبية واليابان وأمريكا الشمالية ولزمن طويل، ومع هذا لم يصبح الفرنسي كالألماني ولا الأخير مثل الياباني أو الأمريكي. في حال الشعوب الأوروبية تبدو الصورة أوضح فعلى الرغم من تراثها المشترك، الديني والثقافي والعلمي، ما تزال تلك الشعوب متمايزة بخصائصها ولغاتها وطعامها وموسيقاها. تجمعهم الحداثة على سيادة العقل والعلم وفصل الدين عن الدولة والإيمان بالمواطن الفرد وحرية الإبداع“.
ما السبب في أن الحداثة تجمع بين الشعوب الأوروبية واليابان وأمريكا، ولم يصبح الفرنسي كالألماني ولا الأخير مثل الياباني أو الأمريكي؟
السبب هو أن هناك أمة فرنسية مكونة، وأمة ألمانية مكوّنة، وأمة يابانية، وقل مثل ذلك بالنسبة لبقية الشعوب الأوروبية، أما بالنسبة لنا فليس الموضوع هل نختار الأصالة أو الحداثة، الموضوع هو عدم تشكّل أمة، لأن القدرة على الاختيار مرتبطة بالأمة.
ثم يقول محمود الزايد في فقرة أخرى:
“منطق العقل يقول إن ما يجمع الشعوب العربية أكثر مما لا يقاس مما يجمع الأوروبيين، فلماذا لا توجد سوق عربية مشتركة ولا نقول وحدة واتحاداً؟”.
السبب في قدرة الأوروبيين على اتخاذ قرار بخصوص السوق المشتركة هو أن هناك أمماً مكوّنة عند الأوروبيين تتخذ القرار المناسب، ولكن القضية المطروحة عند العرب هي تشكيل أمة، فالقضية ليست قضية منطق فقط بل هي قضية واقع موضوعي يقوم على الاقليمية بسبب غياب الأمة الواحدة يحول دون تشكيل سوق مشتركة، وعندما تكون هناك أمة واحدة لن يكون هناك سوق عربية مشتركة بل ستكون سوق واحدة.
ثم يقول محمود الزايد في موضع آخر من مقاله:
“قاربت الحداثة بين الأوروبيين وتسير بهم في طريق الاتحاد بينما أصالتنا المحظوظة لم تقودنا في نفس الاتجاه“.
ليست حداثتهم التي قاربت بينهم، وإنما قرارات أممهم هي التي قاربت بينهم، وليست أصالتنا هي التي حالت دون اتحادنا لكنها قطريتنا الناتجة عن تمزّق أمتنا وإقليميتنا التي أوصلنا إليها الفكر القومي العربي.
ثم يقول الكاتب في فقرة أخرى:
“الحداثة غيّرت الأوروبيين وعقليتهم ورؤيتهم لأنفسهم والعالم ونقلتهم من الإقطاع إلى الدولة الحديثة ومن الدولة القومية باتجاه السوق الأوروبية المشتركة ومن تلك ستقلّهم إلى العالم والقرية الكونية إذا لم يسقط العالم في التفكك والبربرية. لو بقي الأوروبيون يعيشون في الماضي وعقليته لما أمكن لسوقهم المشتركة أن تُولَد وما كان لمنطق العقل والمصلحة أن يجمع الفرنسي مع الألماني أو مع الإنكليزي في مشروع يتجاوز الحدود والأوطان“.
إن ربط كل التغييرات التي تصيب أوروبا بالحداثة مجانب للصواب، بل إن بداية القرار الصائب الذي يقود إلى اختيار المصلحة يبدأ انطلاقاً من تكوّن الأمة، وهذا ما حدث مع الأوروبيين فإن أممهم تشكلت أولاً، ثم تقاتلت هذه الأمم ثانياً، ثم اختارت الأمم السوق المشتركة ثالثاً. أما نحن فغياب تكوين الأمة هو السبب في عدم نجاحنا في اتخاذ الخطوة المناسبة.
ثم يقول الكاتب في مكان آخر من مقاله:
“العربي إذا تبنى الحداثة أو العلمانية لن يصبح أوروبياً ولا يابانياً وليس مطلوباً منه أن يتحول إلى شخصية حضارية أخرى أو استبدال لغته بلغة غربية ولا شرقية ولا يراد له نسيان تاريخه وتراثه“.
إن العبارة السابقة تصبح صحيحة إذا صغناها بالصورة التالية:
العربي إذا تبنى الحداثة أو العلمانية دون أن يكون جزءاً من أمة كما هو في وضعنا الحالي فإنه سيصبح أوروبياً ممسوخاً رغماً عنه، يستبدل لغته وينسى تاريخه وتراثه.
الخلاصة
إن دعوة الأصالة ليست هي السبب في عدم تشكلنا وفعلنا الحضاريين، لكنه الفكر القومي العربي الذي كان في مركز الفعل والتأثير طوال القرن الماضي، فهو تعثّر في تكوين الأمة التي استهدفها، ولم يترك الأمة الإسلامية التي اجتهد في مصادمتها.