ليس من شك بأن الاستبداد من أهم الأمراض والأخطار التي تدمّر الأمم، وتُضعف فاعليتها، وقد تعرضت أمتنا في العصر الحديث على يد الدولة القومية الوطنية إلى صور من الاستبداد لم تعهده في سابق تاريخها، وهي صورة من أبشع صور الاستبداد، لكنها ثارت عليه في بعض الدول إثر ثورات الربيع العربي، وكادت أن تقتلعه، لكن التجربة تعثرت كما هو واضح من مسيرة الأحداث.
وتعرضت أمتنا في سابق تاريخها منذ عصر الأمويين والعباسيين إلى محاولة ترسيخ الاستبداد، لكنها نجحت في التصدي له، وها أنا أعرض جانباً من تلك التجربة، لعلنا نستفيد منها في عصرنا الحاضر.
يقوم كيان الاستبداد على ثلاثة محاور: المُسّتبِد، والجمهور المُسّتَبد به، والثقافة التي يستخدمها المُستبد في تطويع الجمهور. وقد كانت هناك ثلاثة أنواع من الثقافات عاصرت الحكم الإسلامي وسبقته في تسويغ الاستبداد وصياغة ثقافته وهي: الثقافة الفارسية، وثقافة السلطة الكنسية، ثم ثقافة الملوك الإقطاعيين، وجميعها يقوم على أربعة أركان هي:
1-2. تقديس الحاكم، وسلطته.
3. السلطة مطلقة، لا شيء يقيدها أو يحد من إطلاقها.
4. لا ينبغي أن تكون هذه السلطة موضع اعتراض.
ونجد تأييداً للأركان الأربعة في كلمة القديس “بولس” الذي تُعتبر أقواله أهم الأقوال المرجعية في الفكر الكنسي التي يُرجع فيها السلطة إلى الله، فيقول: “ليخضع كل واحد للسلطات المنصّبة، فإنه لا سلطان إلاّ من الله. والسلطات الكائنة إنما رتبها الله. ومن يقاوم السلطان – إذن – إنما يعاند ترتيب الله. والمعاندون يجلبون الدينونة على أنفسهم”.
ثم بعد أن أصبحت السيادة للكنيسة في القرون الوسطى، أصبح السلطان هو البابا، وعندما حاول فريدريك الثاني المطالبة لنفسه بالسلطة التامة أجابه البابا إينوسان الرابع (1243-1254م) بأن سلطة الحكومة الزمنية لا يمكن أن تُمارس خارج الكنيسة “لأنه ليس هناك من سلطة أسسها الله خارجها”، وأضاف “إن نائب المسيح تلقى سلطة ممارسة قضائه بواسطة المفتاح الأول على الأرض بالنسبة للأمور الزمنية، وبواسطة المفتاح الثاني في السماء بالنسبة إلى الأمور الروحية”.
ثم تمرّد الملوك الأوروبيون على سلطة الكنيسة، وفصلوا السلطة الزمنية عن السلطة الكنسية، وقد فعل ذلك فيليب الجميل الذي حكم فرنسا (1285-1314م)، وأصدر قراراً في عام 1297م فصل فيه الحكومة الزمنية عن الحكومة الدينية، وأقام سلطته على حق الملوك المقدس، أو نظرية الحق الإلهي، وتقوم هذه النظرية على أن السلطة مقدسة، فالملوك هم خلفاء الله في الأرض وعن طريقهم يدير شؤون مملكته، لذلك لم يكن العرش الملكي عرشاً ملكياً فقط، بل كان ذلك العرش هو عرش الإله ذاته، فالملوك يَحِلّون محل الإله الأب، وهي مطلقة، ولا يجب أن تكون محل اعتراض.
وتأتي منظومة الثقافة الفارسية الذروة في تطويع الشعوب للمستبدين، وخير ما يعبر عن هذه الثقافة “عهد أردشير” الذي كتبه أردشير لولده، واعتبرت الثقافة الفارسية أن الدين طاعة رجل، وأن طاعة السلطان من طاعة الله، واعتبرت – أيضاً – أن الملك عنصر أساسي وضروري في الأخلاق الكسروية، وطاعته هي القيمة المركزية في هذه الأخلاق، وقد دمجت الثقافة الكسروية في النهاية “الدين والطاعة والسلطان” في حزمة واحدة.
وعندما جاء الإسلام أقام كيانه السياسي على منظومة ثقافية جديدة، تصطدم كلياً مع المنظومات الثقافية السابقة أو المعاصرة له، واعتبرت تلك المنظومة الثقافية أن الحاكم بشر، وسلطته بشرية، وهي ليست مطلقة بل مقيدة بالقرآن الكريم وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم -ويمكن أن تكون محل اعتراض، وهناك عشرات الأدلة على وضوح هذه المنظومة الثقافية في أذهان الخلفاء والصحابة والمسلمين من بعدهم.
يأتي في أولها كلمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي ألقاها عند توليه الخلافة: “أيها الناس لقد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني…. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.
وقد أوضح أبوبكر الصديق في كلمته إلى المسلمين الذين انتخبوه أنه حاكم بشر، وأن سلطته بشرية، وأنها محددة بشرع الله وطاعة الله ورسوله، وأنه مسموح الاعتراض عليه، وقد بقي هذا الفهم راسخاً عند المسلمين على مدار القرون، وهو أساس المنظومة الثقافية الإسلامية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهناك عشرات الأدلة، وقد اتضح هذا في مسيرة العلماء على مدار الأربع عشر قرناً.
وسأضرب مثالاً على ذلك بأئمة المذاهب الأربعة: أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل رحمهم الله، فجميعهم اعتبروا الحاكم المعاصر بشراً، وأن سلطته بشرية، وأكد ذلك اعتراضهم على بعض تصرفات الحكام المعاصرين لهم، لذلك تعرضوا للضرب حيناً وللسجن حيناً آخر، ويمكن أن أذكر بعض الوقائع أكثر تفصيلاً من سيرة الإمام أبي حنيفة.
فقد عاصر أبو حنيفة رحمه الله الدولتين: الأموية والعباسية، وقد خرج في عصره “زيد بن علي” على الدولة الأموية، وناصر أبو حنيفة زيداً، وأيّده بالمال، فأعطاه عشرة آلاف درهماً، وقد اعتقله والي الأمويين على الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة بعد أن رفض أن يتولى منصب المسؤول عن الخاتم في الولاية، وضربه على ذلك حتى كاد أن يموت، ثم أخرجه من السجن، ثم فرّ أبو حنيفة إلى مكة وبقي هناك إلى أن سقط الحكم الأموي وعاد إلى الكوفة.
أما العباسيون فقد خرج عليهم “محمد ذو النفس الزكية”، وناصره أبو حنيفة رحمه الله ، وأقنع بعض قواد جيش أبي جعفر المنصور بعدم مقاتلة “محمد ذي النفس الزكية”، وقد استجابوا له، وقد جادل أبو حنيفة أبا جعفر المنصور بخصوص أهل الموصل الذين انتفضوا عليه، وقد اشترط المنصور عليهم إذا انتفضوا تَحِلّ دماؤهم، فجمع المنصور الفقهاء وفيهم أبو حنيفة واستفتاهم في هذا الشأن، فأجابه أبو حنيفة: “إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما ليس لك، لأن دم المسلم لا يَحِل إلا بأحد معان ثلاثة، فإن أخذتهم أخذت بما لا يَحِل، وشرط الله أحق أن تُوفي به”.
ثم استمرت المواقف المعارضة من أبي حنيفة لأبي جعفر المنصور، فلم يرض أن يتولى القضاء في بغداد، وطلب منه أن يرجع إليه القضاة فيما يُشكِل عليهم فرفض، فأنزل به العذاب بالضرب والحبس، ثم مات بعد هذه المحنة على اختلاف في روايات الضرب والحبس والموت، ثم دفن في بغداد، وخرج معه خلق كثير في جنازته، وقس على ذلك بقية الأئمة الأربعة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً.
ومن الملاحظ أنه ظهرت في المنظومة الثقافية الإسلامية أقوال تشبه الأقوال في المنظومة الثقافية الفارسية، أو المنظومة الثقافية لعهد ملوك أوروبا الإقطاعيين، من مثل قول أبي جعفر المنصور: “أيها الناس إني أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه”، فكيف دخلت؟ وبماذا نعلل دخولها؟
لقد دخلت عن طريق بعض مروجي الثقافة الفارسية الكسروية من أمثال سالم أبي العلاء، وعبدالحميد الكاتب، وعبدالله بن المقفع، وقد وافقهم على دخولها بعض الحكام الأمويين والعباسيين الذين وجدوا أن المنظومة الثقافية الإسلامية لا تساعدهم على إقامة حكم استبدادي، لذلك استخدموا أولئك الكتّاب المطلعين على تلك الثقافة، فقاموا بترجمة عدد من أمهات كتب تلك الثقافة من مثل: “عهد أردشير” و”كليلة ودمنة”…، ووضعوهم في مناصب تمكنهم من ترويج تلك الثقافة من خلال كتابة الرسائل ذات الأسلوب الخاص إلى الولاة وإلى الرعية والتي كانت تُتلى في الأسواق، ولكن السؤال: هل نجحوا في إيجاد ثقافة إسلامية كسروية؟
الحقيقة، لم ينجحوا لأن العلماء القائمين على المنظومة الثقافية الإسلامية المتصادمة مع الثقافة الكسروية كانوا واعين مخلصين لعناصر منظومتهم الثقافية الإسلامية المتصادمة مع منظومة الثقافة الكسروية، وبقوا منافحين عنها بعلمهم وسلوكهم كما رأينا في سيرة الأئمة الأربعة، وفي سيرة علماء آخرين من بعدهم من مثل: النووي، والذهبي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير إلخ…
لكن يجب علينا الاعتراف إلى جانب ذلك بأنه على الرغم من بقاء المنظومة الثقافية النافية والنابذة للاستبداد على حضورها المستمر في تاريخنا الإسلامي، إلا أنه قام إلى جانب ذلك تيار يحتضن تلك الثقافة الكسروية ويلتقي معها هو تيار التصوف الباطني، ولهذا الموضوع قصة أخرى وتفصيل آخر.
الخلاصة: إن أهم ركن في ديمومة الاستبداد هو الثقافة التي يستخدمها المُستَبِدّون في تطويع الجماهير المُستَبدَّ بها، وقد قامت عدة منظومات ثقافية تؤسس للاستبداد قبل قيام الإسلام وأثناء قيام دولته، وأبرزها ثلاث منظومات ثقافية: المنظومة الفارسية، والكنسية، والحق الإلهي للملوك.
وعندما قام الإسلام جاء بثقافة مناقضة لأصول ثقافة الاستبداد، ولكننا وجدنا بعد فترة من الزمن بعض أقوال المنظومة الثقافية الكسروية تسربت إلى الفضاء الثقافي لأمتنا، وتساءلنا: كيف تسربت؟ ولماذا؟ وقدمنا إجابة على ذلك، وبيّنا أن بعض الحكام لجأوا إلى ذلك لأنهم وجدوا أن المنظومة الثقافية الإسلامية لا تساعدهم على إقامة حكم استبدادي، فاستعاروا بعض أدبيات الثقافة الكسروية، لكنهم لم ينجحوا في ترسيخ تلك الأدبيات في فضائنا الثقافي، وذلك لوجود علماء وفقهاء واعين لعناصر المنظومة الثقافية الإسلامية من جهة، متصدين لتلك الثقافة الكسروية بأقلامهم وأجسادهم من جهة ثانية.
بَقِيَ علينا أن نُشرّح الاستبداد المعاصر، ونرصد نقاط الالتقاء والاختلاف مع الاستبداد الماضي، لنستفيد من عناصر النجاح في التجربة الماضية في مواجهة الاستبداد المعاصر.
رابط المقال من الجزيرة نت أين أمتنا من ثقافة الاستبداد؟