ليس من شك بأن معرفة الذات، ووعي الهوية، وتوصيف الواقع شرط أساسي في قيام النهضة ونجاحها، وهو أمر بدهي، وإلا فكيف ستكون هناك نهضة وهناك عمران دون وعي تضاريس الواقع وسلبياته وإيجابياته؟ هذا ما تقوله تجارب الأمم، وتؤكّده قيادات الشعوب.
والآن إذا عدنا إلى بداية نهضتنا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نجد اضطراباً واسعاً في تحديد هويتنا، ووعي واقعنا، وهو أمر غريب وملفت للنظر، لكنه حادث وموجود، فنجد أجوبة متعدّدة على سؤال: من نحن؟ مع أنه يفترض أن يكون هناك جواب واحد، ينطلق من وعي الواقع ودراسته وتحليله، فجاءت الأجوبة كالتالي: نحن أمّة فرعونية، نحن أمّة سورية، نحن أمّة عربية، نحن قطعة من أوروبّا، نحن أمّة فينيقيّة، نحن عثمانيّون (نسبة للخلافة العثمانية) إلخ…، وكانت معظم الأجوبة إن لم يكن كلها لا تنطلق من وعي الواقع بل تنطلق من نظريات ومقولات غربية، ففي حال القول: نحن أمة مصرية أو سورية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الفرنسية التي تغلّب العوامل الجغرافية في إنشاء الأمة, وفي حال القول: نحن أمة عربية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ في تكوين الأمم، وفي حال القول: نحن عثمانيون، كان ذلك نقلاً عن النظرية التي تغلّب عامل المشيئة والإرادة في قيام الأمم، وكانت بعض الأقوال تغلّب العامل الاقتصادي كما حدث مع النظرية الستالينية الماركسية التي اعتبرت الدولة القومية في القرن التاسع عشر من صنع البورجوازية من أجل الوقوف في وجه طبقة البروليتاريا إلخ…
ومما يؤكّد أن هذه الأحكام على هويتنا منقولة عن النظريات الغربية نقلاً حرفياً هو عدم قدرتها على تفسير واقع الوحدة الثقافية والشعورية والنفسية والاجتماعية التي تعيشها منطقتنا، ففي حال القول بالقومية العربية المستندة إلى النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ، لم يوضح ساطع الحصري – وهو أبرز الآخذين بها – كيفية توحيد هذين العاملين للمشاعر والعواطف في أمتنا، ولا كيفية صياغتهما للعادات والتقاليد الواحدة، ولا كيفية بنائهما للثقافة الواحدة إلخ… بل كانت كل أحاديثه منصبة على دور عاملي اللغة والتاريخ في إنشاء الأمم الأخرى كالأمة الألمانية واليونانية والفرنسية إلخ… وقل الشيء نفسه عن انطون سعادة في قوله بالقومية السورية التي تغلّب العوامل الجغرافية، فهو قد تحدث عن السلالات والمتَّحدات وتطور المجتمعات وتطور الثقافات ودورها في إنشاء الأمم، ولم يطبق ذلك على أمتنا، ولم يبيّن سعادة كذلك كيفية تكوّن وحدة المشاعر والعواطف والعادات والتقاليد والثقافة والتراث المعنوي في الواقع المحيط به.
وكذلك دعا أحمد لطفي السيد إلى القومية الفرعونية، لكنه لم يبيّن لنا كيفية ارتباط واقع الشعب المصري وعاداته وتقاليده ومشاعره وثقافته ولغته بالواقع الفرعوني، ولا يكفي وجود الأهرامات وبعض الآثار الفرعونية للقول بارتباط الشعب المصري في القرن العشرين بالتراث الفرعوني لأنه ليس هناك أية دلائل على هذا الارتباط، وهذا غير كاف لربط الشعب المصري بالحضارة الفرعونية. ثم جاءت حركة القوميين متأخرة في الخمسينيات من القرن الماضي لتزيد من حجم الابتعاد عن الواقع قي مقولتها للقومية، وقد تم ذلك عندما أدخلت شعوباً وأمماً سابقة في نطاق القومية العربية كالفراعنة والفينيقيين والكلدانيين والآشوريين والبرابرة إلخ… وعلّلت ذلك بأنها المرحلة غير الواضحة من القومية.
وللإجابة على السؤال الذي طرحناه قبل قليل وهو: من نحن؟ فنجد أن الجواب على هذا السؤال سهل وبسيط هو: نحن أمّة إسلامية، بناها القرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعندما نقول ذلك، ننطلق من واقع الشعب والمجتمع والناس، ولا ننطلق من خيال أو أوهام أو من حكم مسبق على الواقع، أو من نظريات نودّ تعميمها، فالنظر إلى أخلاق الناس المحيطين بنا، وعاداتهم وتقاليدهم، وأساليب تفكيرهم، ومشاعرهم، وعواطفهم، وتطلّعاتهم، وأهدافهم يقودنا إلى وجود وحدة في كل هذه الأمور مرجعها القرآن الكريم والسنّة المشرفة…، ويمكن أن نرى الارتباط واضحاً بين الوحدة في كل المجالات السابقة وبين مصادر الوحي الإسلامي، فتوحيد الله صاغ وحدة أفكار المسلمين، وعبادة الله صاغت وحدة نفسياتهم، وأحكام الحلال والحرام صاغت وحدة قيمهم، والخوف من النار ورجاء الجنة صاغ وحدة مشاعرهم، واستهداف العمران في الدنيا صاغ وحدة تطلعاتهم، والاقتداء بأفعال الرسول وأقواله صاغ وحدة عاداتهم وتقاليدهم إلخ…
إن الخطأ في فهم الواقع ومعرفة الذات هو الذي جعل النهضة غير ممكنة، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بالحكم الذي شاع منذ مطلع القرن العشرين في معظم الدول العربية، وهو القول: بأن الشعوب الموجودة من المحيط إلى الخليج شكّلت الأمّة العربية، والمقصود أمّة عربية بالمعنى القومي، أي أنها أمّة شكّل عنصري اللغة والتاريخ ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وقيمها ومشاعرها ونفسيّتها إلخ…، لذلك عندما جاءت الدولة القومية واستهدفت بناء نهضة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والحضارية والتربوية والفنية لم تلتفت إلى دور الدين في بناء هذا الواقع، بل نظرت إلى الدين على أنه معوّق للتقدّم والبناء كما كان دوره في الغرب، لذلك لابدّ من العمل على استئصال وجوده من حياة الناس، وفي أحسن الأحوال لابدّ من تهميش دوره، لذلك لم تتحقّق النهضة بل كان هناك سقوط في مختلف المجالات وأحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو عدم الانطلاق من الواقع وعدم تمحيص الهوية وعناصر قيامها.
إن الممارسات التي قامت بها قيادات الفكر القومي العربي في مواجهة الدين خلال القرن العشرين، وفي محاولة استئصاله من كيان الأمّة وبخاصّة عندما ارتبط الفكر القومي العربي بالاشتراكية المادية، كانت من أصعب السنوات في حياة الأمّة، وسبّبت ضعفاً في الأمّة خلال قرن أشدّ من كل الضعف الذي عرفته خلال القرون السابقة جميعها، ويدّل على ذلك نكبة عام 1948م ثم نكسة عام 1967م، لكن الأمّة استطاعت بفضل الله ثم بفضل الحيويّة الكامنة في جسمها أن تتجاوز محاولات الاستئصال تلك، وتتغلّب عليها فكانت الصحوة الإسلامية التي استلمت قيادة الأمّة، وأعادت للدين وضعه الطبيعي ومكانته المطلوبة.
ويلحظ المتابع لأوضاع المنطقة في الفترة الأخيرة أن هناك توجّهاً إلى حلّ مشاكل المنطقة بتطبيق الديمقراطية، ويلحظ كذلك أن المتوجهين إلى تطبيق الديمقراطية ربما يقعون في الخطأ الذي وقع فيه السابقون وهو عدم الانطلاق من الواقع مما سيؤدّي بنا إلى سقوط آخر، وخسارة جديدة نحن في غنى عنها، لذلك يجب أن يكون أول درس نستفيده من التجارب السابقة هو أن نعي واقعنا، ونحترم العوامل التي تشكّله، فهذا هو الأساس الأول للنهضة.