بدأ أبو الحسن الأشعري (260-320ﻫ) حياته معتزلياً، وتتلمذ على يد كبار أعلام المعتزلة في عصره من مثل الجبائي، وعندما بلغ الأربعين من عمره تحوّل من مذهب الاعتزال إلى مذهب السنة، وذكر المؤرخون ثلاثة أسباب لهذا التحول:
“ناظر أستاذه الجبائي في ثلاثة: مؤمن وكافر وصبي.
وقد أجابه أستاذه أن المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.
فقال الأشعري: إن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات، هل يمكن؟
قال الجبائي: يقال له: إن المؤمن نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلها.
فقال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن.
قال الجبائي: يقول له: كنت أعلم لو بقيت لعصيت، ولعوقبت، فراعيت مصلحتك أمتّك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.
فقال الأشعري: لو قال الكافر: يا رب علمت حاله كما علمت حالي، فهلاّ راعيت مصلحتي مثله، فانقطع الجبائي”. (1)
وينقل السبكي مناظرة أخرى في أسماء الله هل هي توقيفية؟
وسواء أكانت هذه المناظرة أم تلك هي التي فصمت علاقة الأشعري بأستاذه الجبائي، نستطيع أن نقول: إن أحد أسباب انتهاء علاقة الأشعري بمذهب الإعتزال عجز أستاذه عن الإجابة إجابة مقنعة في إحدى القضايا المطروحة بينهما.
ذكرت الكتب التي أرّخت لحياة الأشعري أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في رمضان ودعاه في آخراها إلى نصرة مذهب أهل السنة وترك مذهب الاعتزال، فخرج إلى المسجد ورقي كرسياً ثم نادى:
“من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت قد قلت بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع”. (2)
درس الأشعري الفقة الشافعي(3) في الوقت الذي درس فيه مذهب الاعتزال، ومال الدكتور مصطفى عبد الرزاق إلى أن هذا التواصل بين الأشعري والشافعي كان سبباً رئيسياً في تحول الأشعري إلى مذهب أهل السنة، لأن الشافعي جمع – في رأي الدكتور مصطفى عبد الرزاق – بين الأصول والقروع، وتوسط بين أهل الرأي وأهل الحديث، فكان مذهبه أقصد المذاهب وأوسطها، وأثرّت – بالتالي – الشافعي الفذة في الأشعري فكانت سبباً في تحوّله عن مذهب الاعتزال. (4)
لاشك أن المقصود بمذهب أهل السنة الذي تحوّل الأشعري إليه هي آراء أحمد بن حنبل التي تمخضت عن معركته مع المعتزلة في قضية خلق القرآن الكريم والتي تجسّدت في رسالته المسمّاه “رسالة الرد على الزنادقة والجهمية” والتي أقرت بأن القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق، والتي رجّحت أن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، والتي أقرت بعدم تأويل صفات الله الخيرية من مثل: الاستواء على العرش واليد والوجه إلخ… والتي اعتمدت الأخذ بأحاديث الآحاد في مجال العقائد، والتي اعتبرت وجود الله فطرياً ولم تأخذ بأدلة علم الكلام في إثبات وجود الله، ولم تأخذ بمصطلحات مذهب الذرة في إثبات العقائد الإسلامية من مثل: العرض والجوهر والجسم والخلاء والملاء إلخ…
حمل آراء أحمد بن حنبل من بعده تلامذة كثيرون ألّفوا كتباً على غرار “رسالة الرد على الزنادقة والجهمية” في القرون التالية:
إذا تفحصنا كتب الأشعري وجدنا أنه وصلتنا أربعة كتب هي:
وإذا استثنينا كتاب “مقالات الإسلاميين” لأنه يختلف في موضوعه عن الكتب الأخرى فهو تأريخ للفرق الإسلامية، وأجرينا مقارنة بين الكتب الثلاثة الباقية وجدنا أن كتاب “الإبانة” متفرد عن الكتابين الآخرين: “اللمع” و “الرسالة”.
بالنسبة للسؤال الأول فقد انفرد كتاب الإبانة عن الكتابين الآخرين في الأمور التالية:
والآن نعود إلى السؤال الثاني وهو:
ومن أجل الجواب عن هذه الأسئلة لابد لنا من العودة إلى الكتب التي أرخت لحياة الأشعري لكي نجد الجواب فيها.
ذكرت كتب الطبقات أن لقاءً تم بين أبي الحسن الأشعري وبين البربهاري شيخ الحنابلة (5) آنذاك في بغداد بعد أن تحول الأشعري من الاعتزال إلى مذهب أهل السنة، وقال له: “قد كتبت في الرد على المعتزلة كذا، وألفت في تفنيد أقوالهم كذا وكذا”.
فقال له البربهاري: “أنا لا أفهم إلا ما قاله أحمد بن حنبل”. فخرج من عنده وألف كتاب “الإنابة” (6) حتى قيل: “إن الأشعري ألف “الإبانة” من الحنابلة وقاية”.
إذن تربط الرواية السابقة بين لقاء الأشعري بالبربهاري وبين تأليف كتاب “الإبانة” وتعلّل ذلك بأنه ألّفه من أجل إرضاء الحنابلة، وفعلاً فقد كان لإرضاء الحنابلة دور كبير في جعل كلام الأشعري مقبولاً عند أهل السنة.
ويمكن أن نضع عنصر إرضاء شيخ الحنابلة في إطاره، ونقدره التقدير الصحيح إذا قارنا هذا الإرضاء بواقعة مشابهة هي موقف أحمد بن حنبل من معاصرَيْن له هما:
سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي اللذين طرحا آراء جديدة في مجال العقيدة والتصوف، لكن أحمد ابن حنبل عارضهما ولم يرض عن أقوالهما، لذلك لم يقبلهما أهل السنة ولم ترج أقوالهما.
ومما يؤكد أن إرضاء الحنابلة هو العنصر الرئيسي في تأليف كتاب “الإبانة” أن تلامذة الأشعري الذين ألفوا من بعده خالفوا كثيراً من الحقائق التي طرحها في كتاب “الإبانة” ودونوا كتبهم على غرار كتاب “اللمع”.
الهوامش:
(1) السبكي، طبقات الشافعية، ج2، ص 250-251 .
(2) ابن النديم، الفهرست، ص271.
(3) يذكر السبكي أن أبا الحسن الأشعري درس الفقه الشافعي على أبي اسحق المروزي. طبقات الشافعية، ج2،
ص248 .
(4) انظر تفصيل هذا الرأي في كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، مصطفى عبد الرزاق، ص225 .
(5) البربهاري: أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري الفقيه، كان قوّالاً بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم، وصحب سهل بن عبد الله التستري، “طبقات الحنابلة” 20/18-45 ، “البداية والنهاية” 11/201.
(6) الذهبي، “سير أعلام النبلاء”، ج15، ص90 .
سيرة الأشعري … وتأليفه كتاب “الإبانة” من موقع سعورس
Lorem Ipsum