ماذا بقي من الناصرية؟

ماذا بقي من الناصرية؟
تمر الآن علينا ذكرى حرب الأيام الستة التي اشتعلت في 5 حزيران/يونيو عام 1967م والتي انتهت باحتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفة الغربية، هذه الحرب التي مازلنا نعاني من آثارها حتى الآن، والتي كانت ثمرة لسياسات جمال عبد الناصر التي تبلورت في الحركة الناصرية، فما هي أبرز معالم الحركة الناصرية؟ وماذا كانت آثارها؟ وماذا بقي منها؟

لكن قبل الولوج إلى الحديث عن الحركة الناصرية، قد يتساءل القارئ: لماذا الحديث عن الحركة الناصرية الآن؟

الحديث عن الحركة الناصرية ضروري الآن في رأيي، لأنها طريقة لحل مشكلات الأمة وجدت سابقاً، وتمثلت في حركات مشابهة أبرزها حركة كمال أتاتورك في تركيا في مطلع القرن العشرين، وهي موجودة حالياً في بعض البلدان العربية، ويمكن أن توجد مستقبلاً، لذلك فإنّ مناقشتها وتقويمها التقويم الدقيق يساعد على تكوين وعي سليم لما حدث، لكي تكون هناك حركة سليمة في الحاضر والمستقبل.

        لقد قاد جمال عبد الناصر انقلاباً عسكريا على الملكية في مصر في 23 يوليو/تموز عام 1952م، وقد لبّى الانقلاب مشاعر الغضب التي أحس بها العرب لهزيمتهم في مواجهة اليهود ولقيام دولة إسرائيل عام 1948م.

وقد اختلفت شعارات الانقلاب من وقت إلى آخر فدعا في البداية إلى بناء مصر، وتحريرها من الاحتلال الانكليزي، ثم دعا في مرحلة ثانية إلى الحياد الايجابي ومحاربة الأحلاف، ثم ساعد الحركات الأجنبية المناهضة للاستعمار في الجزائر وعدن وتونس الخ…، وأقام وحدة مع سورية عام 1958م ثم تبعها الانفصال عام 1961م.

        لقد كانت بعض شعارات الحركة الناصرية معبرة عن آمال الناس ومشاعرهم في المنطقة آنذاك، لذلك حصلت على تأييد شعبي كبير لم تحصل حركة سياسية أخرى على مثله على الأقل في العصر الحاضر.

لكن الحركة الناصرية لم تنجز شيئاً على أرض الواقع، فلم يتحقّق بناء اقتصادي، ولم يتحقق استقلال سياسي، ولم تتحقّق وحدة عربية، وتدمر الجيش المصري في معركة سيناء، واحتلت إسرائيل كما ذكرنا أجزاء كبيرة من الأقطار المحيطة بإسرائيل، وقبل أن نبحث عن السبب الذي جعل الناصرية تفشل في تحقيق أي شيء مع كل التأييد الشعبي الذي حصلت عليه نسأل: ما الذي قامت عليه الحركة الناصرية؟

        لقد تبنّت الحركة الناصرية فكرة القومية العربية، ثم تبنّت الاشتراكية، وكان مضمون هاتين الفكرتين مأخوذاً من الحضارة الغربية، فالقومية العربية تعني الولاء للعرب وحدهم، وحبّهم وحدهم، والدفاع عنهم في وجه الشعوب الأخرى، والارتباط بهم وحدهم، وخدمة مصالحهم، والتفاعل مع آلامهم وآمالهم الخ…، أي أن تصبح القومية العربية دين العربي وعقيدته.

أما الاشتراكية فتعني الصراع الطبقي بين طبقات المجتمع وحقد الفقراء على الأغنياء، والاستيلاء على أموال الأغنياء وتأميم شركاتهم، وعزلهم عن الحياة السياسية، وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا التي تمثّلت في تحالف العمال والفلاحين الخ…، أما موقف الناصرية من الدين في المرحلتين القومية والاشتراكية، فقد كان نقلاً لموقف أوروبا منه، ويتلخص في اعتباره شأناً شخصياً بين العبد وربه، ويجب عزل أحكامه عن كل أمور الحياة، وإحلال الاجتهادات البشرية مكان تشريعاته في كل أمور المجتمع الاقتصادية والسياسية والفكرية الخ…، ليس هذا فحسب بل كان هناك توجيه لهدم القيم والعادات الدينية بحجة أنها قيم رجعية تحول دون التقدم، ويستغلها الرأسماليون أصحاب الثروات.

وقد فتح جمال عبدالناصر كل صحفه ومجلاته وإذاعاته وأجهزته للمعادين للدين ولتراث الأمة لكي ينفثوا كل أحقادهم المعادية للدين، ولكي يروجوا لكل أباطيلهم وضلالاتهم في الاستهزاء بالدين والتهجم عليه والتشكيك فيه، وبالذات للشيوعيين الذين دخلوا الاتحاد الاشتراكي وشكلوا بعضاً من قياداته الفاعلة والمؤثرة.

        وحتى ندرك خطورة دعوة عبد الناصر إلى القومية والاشتراكية بصورتهما العلمانية اللادينية علينا أن نضعهما في سياقهما التاريخي، فقد جاءت تلك الدعوة في الوقت الذي كان العالم الإسلامي عموماً ومصر وباكستان خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية يشهدان مدّاً إسلامياً يدعو إلى العودة إلى قيم الإسلام وإلى تحكيم تشريعاته، مما جعل تلك الدعوة مدانة ومشبوهة ومناقضة لتطلعات الأمة وذات أثر سيء على مسيرتها.

        أما الجانب السياسي من الحركة الناصرية فقد جاء ثمرة لتخطيط أمريكا من أجل إحكام قبضتها على المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد بحثت المخابرات الأمريكية عن رجل يعشق السلطة، ويؤدي دوراً يظن أنه يخدم في أدائه مصلحته ومصلحة بلده لكنه يكون في الحقيقة خادماً للمصالح الأمريكية فوجدته في شخص جمال عبدالناصر، ثم دعمته بالمال والتوجيه والتخطيط (1)، وساعدته عام 1956م في معركة السويس التي حقّقت شعبيته الكبيرة في المنطقة، فأجبرت الدول المعتدية الثلاثة انكلترا وفرنسا وإسرائيل على إيقاف عدوانها من خلال قرارات الأمم المتحدة من جهة، وأجبرت إسرائيل على الانسحاب من سيناء وغزة عام 1957م من جهة ثانية، وهنا يرد سؤال: لماذا كان ارتباط عبدالناصر بأمريكا خفياً؟

سبب ذلك أنّ أمريكا كانت تخوض معركتين:

الأولى: معركة صريحة ضد الاتحاد السوفييتي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى، وكانت تستعين بكل أوروبا في هذه المعركة.

الثانية: معركة خفية ضد أصدقاء الأمس: انكلترا وفرنسا من أجل وراثة نفوذهما في آسيا وأفريقيا.

        إنّ تلك المعركة الخفية مع أصدقاء الأمس هي التي اضطرت أمريكا إلى إخفاء علاقتها مع عبد الناصر وسمحت بإعطائه هامشاً من التحرك جعله يتعاون مع الاتحاد السوفييتي في استيراد السلاح وإقامة بعض المشاريع الاقتصادية مما زاد في تضليل رجل الشارع العربي عن حقيقة علاقة عبد الناصر بأمريكا. لكن الأمور عادت إلى الوضوح بعد أن ضيقت أمريكا النفوذين الإنكليزي والفرنسي في المنطقة، وبعد أن حكم السادات مصر عام 1970م فأنهى العلاقة مع الاتحاد السوفييتي في صيف عام 1972م، وأعلن بعد حرب رمضان عام 1973م أنّ 99% من أوراق المنطقة بيد أمريكا، ثم ارتبط مع أمريكا بشكل مكشوف من خلال اتفاقات كامب ديفيد.

والآن: نعود إلى السؤال الذي واجهناه في البداية وهو: لماذا لم تحقّق الناصرية شيئاً من أهداف الأمة؟

لم تحقق الناصرية شيئاً من أهداف الأمة لأنّ الأسس التي قامت عليها وهي القومية والاشتراكية قيم مخالفة في مضمونها لقيم الأمة المستمدّة من القرآن والسنة، لذلك لم يكن هناك تفاعل حقيقي بين تلك التنظيرات التي طرحتها الناصرية وبين جماهير الناس وهو شرط أساسي لأي نجاح، ومما يدل على ذلك ويؤكده هو عدم بقاء شيء من تلك التنظيرات مع مجيء السادات الذي أنهاها واتبع منهجاً مخالفاً فلم يعد للقومية العربية أي ذكر في مصر على أي مستوى، وانتهت الاشتراكية على المستوى النظري والمستوى العملي وحلّ محلّها اقتصاد السوق.

ولم تحقق الناصرية شيئاً من أهداف الأمة لأنها قامت من خلال الارتباط السياسي بأمريكا، لذلك استخدمتها أمريكا لتحقيق أهدافها المتعددة مثل: إنهاء النفوذين الانكليزي والفرنسي، وضرب الحركة الإسلامية الخ…، ولما أدت دورها خير أداء أنهتها أمريكا في حرب 1967م.

        إنّ الدرس الرئيسي الذي نستفيده من التجربة الناصرية هو أنّ تحقيق أية حركة لأي نصر أو تقدّم يخدم الأمة لابد من أن يكون مستنداً إلى دين الأمة وعقيدتها وقيمها من جهة، ولابد من أن يكون مستنداً إلى استقلال حقيقي للحركة في نشأتها وفي قرارها السياسي من جهة ثانية.

        وفي النهاية: ماذا بقي من الناصرية؟ لم يبق إلا الخراب الاقتصادي والتدمير العسكري والأزمات والفقر والضياع ودوامة الحلول السياسية التي نشهد فصولها هذه الأيام.


(1) أنظر تفصيلاً لذلك في كتاب “لعبة الأمم” لمايلز كوبلاد، الصفحات (80-153).

الناصرية هل ما زالت مشروعا حيا؟

الناصرية هل ما زالت مشروعا حيا؟

اترك رد