ألف الدكتور برهان غليون كتابا تحت عنوان “عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل، سوريا 2011 ـ 2012″، تحدث فيه عن وقائع الربيع العربي في سوريا، الذي بدأ عام 2011، وتحدث فيه عن دور العلمانيين في هذه الثورة، وكذلك عن دور الإسلاميين، وتناول جانبا من تاريخ البعث في سوريا، وعرّج على “ربيع دمشق” عام 2001، و”إعلان دمشق” الذي نتج عن لقاء العلمانيين والإخوان المسلمين في هذا الإعلان، كما رصد مرحلة مهمة من مراحل ثورة سوريا عام 2011، التي ابتدأت سلمية، ثم رصد تحولها إلى مسلحة، كما تحدث عن المجلس الوطني الذي تشكل في أول تشرين أول (أكتوبر) 2011، وتحدث عن ترؤسه لهذا المجلس، وعن الأهداف التي اجتهد في تحقيقها في أثناء هذه الرئاسة، وعن فشله في تحقيق هذه الأهداف، وعن أهم الأسباب التي أدت إلى فشله وهي منازعة ومناكفة رفاقه العلمانيين له.
وفي الحقيقة أحسن الكاتب في رصد الأحداث ومتابعتها، وفي توضيح موقف الدول الكبرى من الثورة السورية، وتطور هذه المواقف، وعلى رأس هذه الدول روسيا وأمريكا، وجاء الكتاب غنيا في إجلاء مواقف هذه الدول وخذلانها للثورة السورية، وأحسن الكاتب أيضا عندما بيّن بعض مواقف العلمانيين السلبية، وأبرزها انحيازهم إلى نظام البعث، ووقوفهم إلى جانبه، واستفادتهم من سلطته.
لا أريد أن أستعرض كل الكتاب، ولكني أريد أن أناقش عدة أحكام أطلقها الكاتب على الإسلاميين والثورة السورية ومنها: خيانة الإسلاميين للثورة، سرقة الإسلاميين للثورة، هل الثورة إسلامية أم علمانية؟ أسلمة الثورة، وهل الأسلمة مسؤولة عن فشل الثورة؟ عسكرة الثورة ودور الإسلاميين في ذلك إلخ…، وأبيّن أين الصواب والخطأ في العناوين التي تحدث عنها الكاتب فيما سبق.
فهرس المقال
ويمكن أن تتحقق الإجابة على قسم كبير من الأسئلة السابقة إذا حررنا مسألة “إسلامية الثورة”، وناقشنا تلك المقولة. فمن البيّن أن الثورة التي انطلقت في 15 آذار (مارس) 2011 في سوريا هي “ثورة إسلامية”، وأوضح ما يكون ذلك في المراحل التالية، وقد جاء ذلك من وضوح غلبة الجمهور الإسلامي على الجمهور الآخر غير الإسلامي، على اختلاف تصنيفاته من علماني وقومي وشيوعي واشتراكي وليبرالي إلخ، وتأكد في اعتماد الإسلام كمرجعية بصورة من الصور لدى معظم الهيئات والتجمعات والفصائل التي خاضت غمار المواجهة والقتال مع النظام وحلفائه، وهذا الموضوع لم يُمار فيه أحد.
لكن اللبس الذي جعل بعض الكتّاب يتهمون الإسلاميين ببعض الأوصاف من مثل: “سرقة الثورة”، أو “خيانة الثورة”، هو أن بدايتها لم تكن إسلامية بشكل صرف، إنما كانت خليطا من الإسلاميين وغيرهم: في قيادتها وشعاراتها.
وقد جاء غياب الإسلاميين عن القيادة الواضحة للثورة في بدايتها نتيجة العنف غير الطبيعي، الذي مارسه النظام ضد الإسلاميين خلال الخمسين عاما الماضية، والذي استأصل جزءا كبيرا من القيادات الإسلامية، فقتل بعضها، وشرّد بعضها الآخر، وأدخل عشرات الألوف السجون المختلفة، فكان من الطبيعي ألا يظهر الإسلاميون في بداية الثورة، لا في قيادتها ولا في صفوفها الأمامية ولا في شعاراتها، ولكن بعد مضي زمن بسيط على بداية الثورة، وانكسار القبضة الأمنية، وتدمير حائط المخابرات، وسماح الظروف للإسلاميين بالظهور، تبين رجحان أعداد الإسلاميين على الأعداد الأخرى العاملة في الثورة، وظهر ثقل الإسلاميين وتصدروا المشهد، وهذا الرجحان عبّر عن الحقيقة وليس غيرها.
أما اتهام الإسلاميين بـ “خيانة الثورة” بمعنى أنها كانت ثورة ذات مضمون ديمقراطي ليبرالي، ثم خانها الإسلاميون عندما طرحوا مضمونا إسلاميا، فهذا غير صحيح، فالثورة كانت عفوية في انطلاقتها كما هو مؤكد ومجمع عليه، وجاءت متأثرة بمناخ الربيع العربي الذي انطلق من تونس في 17 كانون أول (ديسمبر) 2010، ثم انتقل إلى مصر في 25 كانون ثاني (يناير) 2011، ثم تعدّاه إلى ليبيا في 17 شباط (فبراير) 2011، لذلك انعكست طبيعتها العفوية على شعاراتها، فكانت شعارات عامة، تدعو إلى التخلص من الاستبداد، والتحرر من القهر والكبت والظلم.
وعندما استمرت الثورة لأشهر، ودخل الشعب بمعظمه في أتون الثورة، اتضحت معالمها الإسلامية، وتأكدت إسلامية الثورة، فالموضوع ليس “موضوع خيانة” إنما “موضوع ثقل وموازين”، فعندما أخذت الثورة مجراها الحقيقي، وتفاعلت معها مختلف قوى الشعب السوري، اتضح أن الإسلاميين هم الأكثر جمهورا، والأقوى حضورا، والأكثر فاعلية، لذلك اتضح المضمون الإسلامي للثورة، وهذا متسق مع التاريخ السابق للثورات في سوريا منذ مجيء البعث عام 1963، فبعد أن صعد البعث إلى حكم سوريا عام 1963 قامت عدة ثورات كانت جميعها إسلامية دون استثناء، منها: ثورة جامع السلطان التي قادها مروان حديد عام 1964، والتي انتهت بتدمير جامع السلطان، وثورة الجامع الأموي عام 1965، التي انتهت بدخول الدبابات إلى الجامع الأموي، واحتلال العسكر له. ثم جاءت ثورة عام 1980، التي انتهت بتدمير مدينة حماة عام 1982، وقتل عشرات الألوف من سكانها المدنيين.
ومما يؤكد أنه لم تكن هناك “خيانة للثورة” من الإسلاميين، هو دراسة التاريخ التفصيلي للدولة “الوطنية القومية”، التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى على أنقاض الخلافة العثمانية، ومعرفة المقاوم الرئيسي لهذه “الدولة الوطنية”. وعند الدراسة والتدقيق، نجد أن المقاوم الرئيسي لها هم “الإسلاميون” في مصر والعراق وبلاد الشام والسودان والجزائر، وقد جاءت “معارضة الإسلاميين” من أنهم يعبّرون عن “أمة إسلامية”، كانت مستهدفة من الفكر القومي الاشتراكي الذي غزا البلاد بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، واستهدف إحداث تغيير نوعي في البناء الثقافي والفكري لهذه الأمة، وإحداث نهضة لهذه الأمة، لكنه لم ينجح في ذلك، وانحسرت موجته بعد نكسة عام 1967، وجاءت الصحوة الإسلامية، واضطرته إلى التنازل عن الاشتراكية، والإبقاء على الفكر القومي.
وقد جاءت ثورات الربيع في مطلع عام 2011 في البلدان العربية موجة من موجات هجوم الأمة على الحكام المستبدين المعادين لها، والمممثلين للتغريب الحضاري والسياسة الغربية في تجلياتها الأخيرة: الفكر القومي، والاقتصاد الرأسمالي، والنزعة الاستهلاكية إلخ…
وتأتي الثورة السورية في ذلك السياق، لأن الشعب السوري جزء من هذه الأمة، وعانى أكثر من غيره من عسف النظام البعثي، ومن ظلم العصابة الأسدية، لذلك فإن ثورته جزء من حركة الأمة الإسلامية في مواجهة هذا الطغيان، وهذا الإفساد، وتعبير عنها، وليس الموضوع “خيانة” للثورة، ولا غيرها من الأقوال.
من العناوين التي أطلقها الدكتور برهان غليون في كتابه “قوة الإسلاميين”، وأشار إلى أن هذه القوة تأتي من كتاب مقدس، وحضارة ممتدة، ورموز تاريخية، ويردفها في العصر الحاضر تجربة الإسلاميين في الجهاد في بعض الساحات كساحة أفغانستان. لكنه حاول أن يهوّن من هذه القوة بأن الإسلام يمكن أن يفهم على ثلاثة معان:
واعتبر الدكتور برهان غليون أن التمييز بين المعاني المختلفة للإسلام ضروري لبلورة تعريف دقيق للأسلمة نفسها، لكنّه تجاهل أو جهل أن المعاني الثلاثة تجتمع في مفهوم واحد وهو مفهوم “الأمة الإسلامية” التي امتدت قائمة على مدى أربعة عشر قرناً، وهي ما زالت قائمة إلى اليوم، وهي التي واجهت التغريب على مدى قرنين، وطردت جيوش المحتلين المستعمرين، في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
وهي التي واجهت الطغاة المستبدين ذوي الانتساب القومي والاشتراكي، وتصارعت معهم، وقدّمت ملايين الضحايا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، والأصل كما قلت إن المعاني الثلاثة منضوية في مفهوم “الأمة الإسلامية” التي ينتمي إليها “المسلم الفرد” حيثما كان، وهو ما بناه الإسلام في مفهومه الشامل لمعالجة كل جوانب الحياة من فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية إلخ..، وهو ما جاءت العلمانية العربية المعاصرة لتحاربه، وكان على رأسها علي عبد الرازق في كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، والذي أعلن فيه أن الإسلام إيمان ودعوة فقط، وأن الإسلام لا حكم فيه، وأن الحكم من اختراع المسلمين.
يشير الكاتب إلى دور “الإيمان الإسلامي” في حماية الفرد المسلم في سوريا وفي المحافظة على ذاته وهويته، وفي إعطائه الصبر والقدرة على التحمل، ووجود الأمل بالانتصار، في مواجهة الإجرام الأسدي، الذي قام على وضع المجتمع السوري في رعب كامل من خلال أجهزة المخابرات الأربعة عشر التي وضعها رقيبة على كل تصرفات الأفراد، والتي ربط كل معاملات الفرد بها، من أصغرها إلى أكبرها، وأنهى كل حياة مدنية ذات مؤسسات خاصة، وعطّل الحياة السياسية وجعلها مرتبطة بشخص الرئيس وأسرته.
لقد بيّن الكاتب دور الإيمان الفردي في انتشار بعض المظاهر الإسلامية في سوريا خلال الأربعين سنة الماضية، مثل: توسع ظاهرة ارتياد المساجد عند الشباب، والانتشار الواسع لظاهرة حجاب المرأة، وتحكيم الدين في العلاقات الاجتماعية بدلاً من العادات.
لكن الكاتب يعود فيخطّئ الإسلاميين عندما يعتبرون أن مثل هذه العودة إلى المظاهر الدينية هي تعبير عن تمسك الجمهور بالقيم والتطلعات الدينية كما تبلورها التيارات السياسية الإسلامية.
لا أدري لماذا يخطّئ الدكتور برهان الإسلاميين في تصورهم ذاك ووضعهم تلك الأحداث في مساقهم الذي يدعون إليه؟ أليس الحجاب وأداء الصلاة وإقامة الأحكام الشرعية وإقامة الدولة من أوامر الإسلام وواجبات المسلم؟ ليس من شك بأنها تنبع من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الإسلام الذي يعالج أمور الدين والدنيا في وقت واحد.
ثم قفز بعد ذلك وقرر أنه لا يوجد تناقض بين الإسلام بالمطلق والعلمانية بالمطلق وإنما هو فقط بين الإسلاميين والعلمانيين، وهذا الكلام غير سديد فهناك تناقض بين الإسلام والعلمانية، وهناك تناقض بين الإسلاميين والعلمانيين، أما التناقض بين “الإسلام والعلمانية” فهو من أوضح الواضحات في الأصول وعشرات المجالات، وإن اتفقا على استخدام العقل واحترامه، ومن الطبيعي أن يكون اختلاف بين “الإسلاميين والعلمانيين”، ومن الممكن تجميد هذا الاختلاف واحتفاظ كل طرف بأيدولوجيته والتعاون لمصلحة الانتصار في مواجهة الاستعمار الغربي والصهيونية والحكام المستبدين، لكن العلمانيين يرفضون هذا التجميد، ويرفضون التعاون إلا إذا تنازل المسلمون عن جانب من أيديولوجيتهم.
وأما استشهاده بتجربة “النهضة” في تونس فيؤكد ما ذهبت إليه فلم يقبل العلمانيون في تونس الإسلاميين إلا بعد أن قدّموا تنازلاً أيدولوجياً، فقد اعتبرت “النهضة” أنه لا يوجد تعارض بين “الإسلام والعلمانية”، وقد عبّر راشد الغنوشي عن هذا الموقف في مقال نشره قبل عدة سنوات، وهو مخطئ في هذا، أما “الإخوان المسلمون” في مصر فلم يصالحهم العلمانيون، ولم يبقوا في الحكم لأنهم لم يرضوا أن يقدموا تنازلاً مماثلاً للعلمانية، لذلك كان مرسي مصيره السجن ثم كانت نهايته القتل.
وقد استعرض الكاتب محاولات المجلس الوطني استجلاب “الحماية للمدنيين” عند ابتداء الثورة بالمظاهرات السلمية، وكيف أنه فشل في ذلك، مع أن هناك قانوناً يخوّل الأمم المتحدة أن تتدخل، إذا كان هناك قمع للمدنيين من قبل الحكام، وتلزمها بحمايتهم، لكن هذا لم يحصل في سوريا، مع أن النظام استخدم كل وسائل الإجرام من: الأسلحة الكيماوية إلى الصواريخ البعيدة المدى، إلى البراميل المتفجرة إلخ….، والسؤال: لماذا لم يحصل التدخل الدولي في سوريا؟ السبب في ذلك أمران:
لذلك على الإسلاميين أن يستفيدوا من هذا الدرس، وأن يحرصوا على الاعتماد على قواهم الذاتية بالاستناد إلى أمتهم في أية محاولة قادمة للتغيير.
أحسن الدكتور برهان غليون في عرضه جانباً من تاريخ الثورة عام 2011 في كتابه “عطب الذات”، كما أحسن في رصده لمواقف الدول الكبرى من الثورة السورية، وفي تصويره لمعاناة الشعب السوري، وقد أصدر بعض الأحكام الخاطئة في حق الإسلاميين وفي حق الثورة السورية وهو ما ناقشته فيه أثناء استعراضي لبعض مواد وأفكار الكتاب.
رابط المقاال من موقع عربي 21 قراءة هادئة في كتاب عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل – د. برهان غليون
Lorem Ipsum