من المعلوم أن تكبير الله سبحانه وتعالى من أوائل الأوامر التي نزلت على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء هذا الأمر في سورة المدثر، وهي من أوائل السور التي نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى (المدثر:1-7):
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾
وقد جاء الأمر بتكبير الله في قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ (الإسراء:111)، وقد جاء الأمر بتعظيم حرمات الله، فقال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج:30)،
وقد جاء القرآن الكريم بتوجيه المسلمين إلى تعظيم شعائر الله، فقال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج:32).
والحقيقة أن تكبير الله وتعظيمه من العبادات القلبية الأولى المهمة التي ألزم الإسلام بها العبد المسلم، ويأتي الخضوع لله تعالى وهي العبادة القلبية الثانية التي تقابل التكبير والتعظيم، فقد قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ (الرعد:15)، وقال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران:83)،
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ (الحج:18).
ثم يأتي حب الله، وهي العبادة القلبية الثالثة التي أوجبها الإسلام على العبد المسلم، وأباح الإسلام للمسلم أن يحب شهوات الدنيا من مثل: الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن، لكنه اشترط أن يكون الله ورسوله أحب إلينا من كل هذه الشهوات، ومصداق ذلك هو القيام بالجهاد، فقد قال تعالى:
﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبه:24).
ثم يأتي الخوف من نار الله -تعالى- ومقامه وعذابه، وهي العبادة القلبية الرابعة التي أوجبها الإسلام على المسلم، فقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (النحل:51)، وقال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن:46)، لذلك تحدثت آيات متعددة عن صور وألوان من العذاب الذي يطال العاصين والمنافقين والكافرين، فقال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لّا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة:41-46).
ثم يأتي رجاء الله –تعالى- ورجاء جنته سبحانه وتعالى، وهي العبادة القلبية الخامسة التي أوجبها الإسلام على المسلم، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف:110).
وقد فصّلت آيات كثيرة صوراً وألواناً من النعيم الذي يطال المؤمنين والمتقين في الجنة، فقال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾ (الواقعة: 27-40).
ويؤكد أهمية التكبير، أنّ عدّة عبادات مهمة برزت فيها عبارة “الله أكبر”، وهي: الصلاة، والأذان، والعيد، فلنبين حكم هذه العبارة، ولنبين الحكمة من إبراز الشرع لها في هذه العبادات.
فهرس المقال
الصلاة ركن من أركان الإسلام، فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان” (رواه البخاري ومسلم)، وهي أهم شعيرة مطلوبة من العبد المسلم، فهي التي فُرضت في السماء ليلة الإسراء والمعراج، وهي التي ترافق العبد خمس مرات في اليوم، وترافقه في كل أحواله ولا تسقط عنه بحال من الأحوال، فإن كان مريضاً ولا يستطيع الصلاة قائماً صلّى قاعداً، وإن كان لا يستطيع الصلاة قاعداً صلّى على جنبه، وإن كان لا يستطيع الصلاة على جنبه صلّى إيماءً، ولا تسقط عنه في حال الحرب فهناك صلاة الخوف، ولا تسقط عنه في حال السفر فهناك القصر والجمع، وهي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ” (رواه الترمذي).
وقد وردت عبارة “الله أكبر” في الصلاة في موضعين:
وقد أجمع الفقهاء على أن تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، كما اعتبر بعض الفقهاء تكبيرات الانتقال واجباً، واعتبرها بعضهم الآخر سنة.
ومما يجدر الانتباه له هو أنه يصح شرعاً أن يقول العبد “الله أعلم” و “الله أحكم” و “الله أقوى”….. فالمعنى صحيح، ولكن ذلك لا يجزئ في الصلاة، بل يفترض عليه أن يقول “الله أكبر”، وهذا يدل على أن الشرع طلب من العبد أن يستحضر صفة “تكبير الله” في الصلاة وليست أية صفة أخرى، لحاجته لها كما سنبين عند الحديث عن الحكمة من تشريع “التكبير” في الصلاة وغيرها.
ومما يجدر الانتباه له -أيضاً- إلى أن كل الأعمال التي يقوم بها العبد في الصلاة من قيام وركوع وسجود المقصود منها إظهار العبد تكبيره لله وتعظيمه له، فهو يقوم له –وحده- سبحانه وتعالى، ويركع له -وحده- سبحانه وتعالى، ويسجد له –وحده- سبحانه وتعالى، ولا يجوز السجود لغير الله.
فهذه الأعمال من قول اللسان لعبارة “الله أكبر”، ثم عمل الجوارح من قيام وركوع وسجود، ثم يأتي وعي العقل فيعقل أن “الله أكبر” من كل الموجودات، ثم يأتي توجه القلب ليكبر الله ويعظمه، وبهذا يكون قد كبَر الله كل أجزاء الإنسان، كبره لسانه وجوارحه وعقله وقلبه.
شُرع الأذان في المدينة، وبيّنت الأحاديث الصحيحة زمان تشريعه، فنقل البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
كان المسلمون حين قدموا المدينة، يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس يُنادى لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أَوَلاَ تبتعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فناد بالصلاة.
(صحيح البخاري، كتاب الأذان، حديث 604) وقد حدّث أنس فقال: أُمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يُوتِر الإقامة إلا الإقامة” (صحيح البخاري، كتاب الأذان، حديث 605).
ومن الواضح أن كلمات الأذان تبدأ بعبارة “الله أكبر” وتنتهي بعبارة “الله أكبر”، ومن الواضح -أيضاً- أنه يجب أن يُؤذّن لكل صلاة، فعلى هذا الأساس يؤذن خمس مرات في اليوم، وفي كل أذان تذكر عبارة “الله أكبر” خمس مرات، كما أنها تذكر ثلاث مرات عند الإقامة.
ويُسن للمسلم أن يتابع المؤذن فيقول مثل ما يقول، فقد روى أبوسعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن” (صحيح البخاري، كتاب الأذان، حديث 611)، “ونُقل عن معاوية بن أبي سفيان: أنه قال: لمَا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال: هكذا سمعنا نبيكم –صلى الله عليه وسلم- يقول” (صحيح البخاري، كتاب الأذان، حديث 613).
أما بالنسبة لحكم الأذان، فإن رفعه واجب في كل بلد وفي كل حيّ، وهو الذي يمنع من القتال، فقد عنون البخاري باباً تحت عنوان: “باب ما يُحقن بالأذان من الدماء”، فقال: حدثنا أنس بن مالك: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً، لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإذا سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: فخرجوا إلينا بمقاتليهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد، قال: فلما رآهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الله أكبر، الله أكبر، خرجت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين” (صحيح البخاري، كتاب الأذان، حديث610).
يشرع للعبد المسلم أن يجهر بالتكبير في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، وهي: “الأيام المعلومات”، فقال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج: 2-28)، كما شرع له أن يكبر الله في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، وهي: “الأيام المعدودات” فقد قال تعالى: “واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا واعلموا أنكم اليه تحشرون” (البقرة، 203).
وقد روى البخاري في صحيحه فقال، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” (الحج، 27): أيام العشر، والأيام المعدودات: أيام التشريق، وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما، وكبّر “محمد بن علي” خلف النافلة، (صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق).
كما روى البخاري في صحيحه فقال: “كان عمر رضي الله عنه يُكبّر في قبته في منى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبّر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً”، وكان “ابن عمر يكبّر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه، تلك الأيام جميعاً. وكانت ميمونة تكبّر يوم النحر، وكنّ النساء يكبّرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز، ليالي التشريق مع الرجال في المسجد” (صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى إلى عرفة).
وعن محمد بن أبي بكر الثقفي قال: سألت أنساً، ونحن غاديان من منى إلى عرفات، عن التلبية، كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “يلبي المُلبي لا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه” (صحيح البخاري، كتاب العيدين، حديث 970)، وعن أم عطية، قالت:
كنا نُؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نُخرج البِكْر من خدرها، حتى نُخرج الحُيَّض، فيكنّ خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهرته (صحيح البخاري، كتاب العيدين، حديث 971).
من الواضح أن الأحاديث السابقة نقلت أن الصحابة كانوا يكثرون من التكبير في أيام العشر الأولى من ذي الحجة، وكانوا يكثرون من التكبير في العيدين وفي أيام التشريق، وقد وضحت الأحاديث أن النساء كن يشاركن الرجال في هذا التكبير، وأما حكم التكبير في كل تلك الأيام العظيمة فهو سنة، وقد استمر المسلمون على مدار التاريخ يؤدون هذه السنة التي هي مظهر عظيم من مظاهر احتفال المسلمين بتعظيم الله وتكبيره.
والسؤال الآن: ما هي الحِكَم والأسرار التي يمكن أن نستشفها من هذا التأكيد على التكبير في عدّة شعائر مهمة وأساسية من شعائر الإسلام؟
حتى نستطيع أن نفهم الحكمة، علينا أن نتوقف عند صيغة التكبير وهي “الله أكبر”، فقد جاءت بصيغة “أفعل التفضيل”، فهناك المُفضَّل وهو “الله” تعالى، وهناك صيغة “أفعل التفضيل” وهي كلمة “أكبر”، وقد اشتقت من الفعل “كبر”، وقد حذف المُفضَّل عليه الذي يجب أن يكون مسبوقاً بكلمة “من”، وأبقاه مُضْمراً، فيمكن أن تقول: “الله أكبر من المرض”، “الله أكبر من الظالم”، “الله أكبر من العدو”، إلخ…
وقد حذف الشرع “المُفضَّل عليه” في كل الشعائر التي ترددت فيها عبارة: “الله أكبر”، في الصلاة، والأذان، والعيد، فما الحكمة من ذلك؟ الحكمة من ذلك أن العبد المسلم عندما ينطق لسانه بعبارة التكبير، ويعيها عقله، ويمتلئ بها قلبه، يستعيد توازنه النفسي، فإن الاضطرابات النفسية في مختلف أشكالها من حزن وقلق وكآبة وخوف وانهيار عصبي إلخ… تأتي من أنّ همّاً من شهوة، أو مال، أو ديْن، أو عدوّ، أو مستقبل، إلخ… تضخم عند العبد، فملأ عليه عقله وقلبه، فيأتي النطق باللسان بأن “الله أكبر” من هذه الشهوة، أو هذا الدّيْن، أو هذا المال، أو هذا العدوّ، فيعيد إلى ذاته توازنها النفسي، وبالتالي يتجه بعقله وقلبه إلى هذا الإله الذي هو “أكبر” من الأمر الذي سبّب له هذا الاضطراب “النفسي”، فيتجه إليه طالباً أن يُنقذه من هذا الهمّ الكبير، فهو يصحو من غفلته ليتذكر أن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر الذي سبّب له هذا الاضطراب، فيسأله العون والنجاة والمساعدة، وبهذا تعيد هذه العبارة: “الله أكبر” هذا الهم الذي سبّب له هذا الاضطراب إلى حجمه الطبيعي، ويتمكن من معالجته، بعد أن يأخذ بالأسباب التي يمكن أن تعالجه، وتُنهي أثره.
أعتقد أننا الآن أدركنا السّر في أن الشرع ألزمنا صيغة “أفعل التفضيل”: “الله أكبر”، وحذف المفضَّل عليه ليبقى المجال للعبد أن يعين المفضَّل عليه الذي كان المتسبب في اضطرابه في تلك اللحظة: من ديْن، أو مال، أو شهوة، أو عدو، أو مستقبل إلخ…، والمتغيَر بين حين وآخر، فيتذكر بأن الله –على الحقيقة– أكبر من هذا الأمر سواءً أكان ديْناً أم شهوة أم مالاً أم عدواً أم مستقبلاً إلخ…، فيعود إليه توازنه النفسي ليستمر في دورة الحياة، ويستمر في وضعه الطبيعي، فيواجه المشكلة التي أرّقته ويتغلب عليها، ثم يستكمل عملية العبادة والإعمار والبناء الحضاري التي خلقه الله من أجلها.
إن تكبير الله عبادة قلبية أساسية من العبادات التي بنى عليها الإسلام قلوب عباده المؤمنين، وجاء الأمر بقول عبارة “الله أكبر” في عدة شعائر، وهي: الصلاة، والأذان، والعيد، وقد جاءت ركناً في الصلاة في تكبيرة الإحرام، وجاءت واجباً في تكبيرات الانتقال وسنة في غيرها، والحكمة من تشريعها هي إعادة التوازن النفسي للمسلم، فعندما ينطق المسلم بعبارة “الله أكبر” ويعيها عقله، ويمتلئ بها قلبه، فإن الأمور تأخذ أحجامها الطبيعية، ويستعيد المسلم بهذا هدوءه وتوازنه النفسي.